نقاش المستخدم:Ahmed shyhab/أرشيف 1

محتويات الصفحة غير مدعومة بلغات أخرى.
أضف موضوعًا
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
أرشيف هذه الصفحة صفحة أرشيف. من فضلك لا تعدلها. لإضافة تعليقات جديدة عدل صفحة النقاش الأصيلة.
أرشيف 1


ابن رشد الحفيد

الفصل الاول: التعريف بابن رشد الحفيد (رحمه الله) وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الاول: ولادته وحياته وفيه مطلبان: المطلب الاول :اسمه وولادته ونسبه المطلب الثاني : حياته ونشأته المبحث الثاني : حياته العلمية وفيه ثلاثة مطالب المطلب الاول : مؤلفاته وتلامذته وشيوخه المطلب الثاني : ثناء العلماء عليه ووفاته المطلب الثالث : منهجه في التأليف المطلب الرابع : مذهبه وعقيدته المبحث الثالث : عصره وفيه ثلاثة مطالب المطلب الاول : الحالة السياسية المطلب الثاني : الحالة الاجتماعية المطلب الثالث : الحالة العلمية

الفصل الاول: وفيه ثلاث مباحث : المبحث الاول :ولادته وحياته المطلب الاول: اسمه وولادته ونسبه اسمه: هو محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد، الشهير بالحفيد، وكنيته أبو الوليد( ) . مولده: ولد في قرطبة سنة (520هـ)، قبل وفاة جده القاضي ابن رشد الأكبر بشهر( ) نسبه: ينتسب القاضي ابن رشد الحفيد إلى أسرة مشتهرة بالفقه؛ فقد كان والده أحمد بن محمد بن رشد المولود في سنة سبع وثمانين وأربعمائة من الهجرة( 487هـ) والمتوفى في سنة: ثلاث وستين وخمسمائة( 563هـ)( ). قال ابن بشكوال عنه: وكان " يقصد به الجد" فقيها عالما، حافظا للفقه، مقدما فيه على جميع أهل عصره، عارفا بالفتوى على مذهب مالك وأصحابه، بصيرا بأقوالهم، نافذا في علم الفرائض والأصول، من أهل الرئاسة في العلم، والبراعة في الفهم، مع الدين، والفضل، والوقار، والحلم، والسمت الحسن، والهدي الصالح( ). المطلب الثاني: حياته ونشأته: ولد ابن رشد رحمه الله في قرطبة ونشأ فيها ايضا، وهو مشهور بالفضل معتنٍ بتحصيل العلوم أوحد في علم الفقه والخلاف، قضى مدة في أشبيلية قبل قرطبة وكان مكينا عند المنصور وجيها في دولته وكذلك أيضا كان ولده الناصر يحترمه كثيرا قال ولما كان المنصور بقرطبة وهو متوجه إلى غزو (ألفنس) وذلك في عام 591هــ استدعى أبا الوليد بن رشد فلما حضر عنده احترمه كثيرا وقربه إليه حتى تعدى به الموضع الذي كان يجلس فيه أبو محمد عبد الواحد بن الشيخ حفص الهنتاتي صاحب عبد المؤمن وهو الثالث أو الرابع من العشرة وكان هذا أبو محمد عبد الواحد قد صاهره المنصور وزوجه بابنته لعظم منزلته عنده ورزق عبد الواحد منها ابنا اسمه علي وهو صاحب إفريقية فلما قرب المنصور ابن رشد وأجلسه إلى جانبه حادثه ثم خرج من عنده وجماعة الطلبه وكثير من أصحابه ينتظرونه فهنؤوه بمنزلته عند المنصور وإقباله عليه فقال والله إن هذا ليس مما يستوجب الهناء به فإن أمير المؤمنين قد قربني دفعة إلى أكثر مما كنت أؤمله فيه أو يصل رجائي إليه وكان جماعة من أعدائه قد شيعوا بأن أمير المؤمنين قد أمر بقتله فلما خرج سالما أمر بعض خدمه أن يمضي إلى بيته ويقول لهم إن يصنعوا له قطا وفراخ حمام مسلوقة إلى متى يأتي إليهم وإنما كان غرضه بذلك تطييب قلوبهم بعافيته ثم أن المنصور فيما بعد نقم على أبي الوليد بن رشد وأمر بأن يقيم في اليسانة وهي بلد قريب من قرطبة وكانت أولا لليهود وأن لا يخرج عنها، ونقم أيضا على جماعة أخر من الفضلاء الأعيان وأمر أن يكونوا في مواضع أخر وأظهر أنه فعل بهم ذلك بسبب ما يدعي فيهم أنهم مشتغلون بالحكمة وعلوم الأوائل وهؤلاء الجماعة هم أبو الوليد بن رشد وأبو جعفر الذهبي والفقيه أبو عبد الله محمد بن إبراهيم قاضي بجاية وأبو الربيع الكفيف وأبو العباس الحافظ الشاعر القرابي، وبقوا مدة ثم أن جماعة من الأعيان بأشبيلية شهدوا لابن رشد أنه على غير ما نسب إليه فرضي المنصور عنه وعن سائر الجماعة وذلك في سنة خمس وتسعين وخمسمائة( ).

قال ابن الأبَّار: (لم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا وكان على شرفه أشد الناس تواضعا وأخفضهم جناحا وعنى بالعلم من صغره إلى كبره حتى حكي عنه أنه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه وليلة بنائه على أهله وأنه سود في ما صنف وقيد وألف وهذب واختصر نحوا من عشرة آلاف ورقة ومال إلى علوم الأوائل فكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره وكان يفزع إلى فتواه في الطب كما يفزغ إلى فتواه في الفقه مع الحظ الوافر من الإعراب والآداب) 

ويذكر الكاتب الفرنسي هنري كوربان: ان جد ابن رشد وابن رشد الحفيد واباه لم يكونا من مشاهير قضاة الاندلس فحسب، وانما كان لهما شأن في الميادين السياسية ايضا، من ذلك ان جده كلف من قبل اكثر ملوك الاندلس بان يعبر لعبد المؤمن بن علي عن ولائهم له، وسافر الى مراكش وقام بهذه المهمة، ومن ذلك ايضا انه لما غُزيت بلاد الاندلس بخيانة النصارى الذين كانوا يعيشون في ظل المسلمين، قام ابن رشد الجد بسفارة ثانية الى مراكش، عارضا على السلطان امر هؤلاء الخونة الذين ينعمون بحماية المسلمين ويغدرون بهم، واشار عليه بنقلهم الى بلاد المغرب، فنقل الالوف منهم الى (سلا)، والى شواطيء المغرب الاقصى .

المبحث الثاني: حياته العلمية وفيه ثلاث مطالب المطلب الاول شيوخه، و تلامذته، و مؤلفاته، من شيوخه أولاً: والده أحمد بن رشد، وقد استظهر عليه الموطأ حفظاً . ثانياً: ابن بشكوال( )، وقد أخذ عنه الفقه، وهو تلميذ جده ابن رشد الجد. ثالثاً: أبو مروان عبد الملك بن مسرة ( ). رابعاً: أبو بكر بن سمحون( ). فيلسوف الأندلس.

خامساً: أبو مروان بن حزبول، وقد أخذ عنه الطب( ). سادساً: ابومروان سراج بن عبد الملك( ) سابعاً: مُحَمَّد بن خيرة( ). ثامناً: مُحَمَّد بن فرج الطلاع( ). تاسعا: أبو جعفر بن هارون ( ). من تلاميذه: أولاً: ابنه القاضي أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد المكنى بابي القاسم ، المتوفى سنة (622هـ).( ) ثانياً: أبو الحسن بن سهل بن مالك( ) ثالثاً: أبو محمد بن حوط الله:( ) رابعاً: أبو بكر بن جَهْوَر( ) مؤلفاته : تقسم مؤلفاته على ثلاثة أقسام: ١ـ مؤلفات علمية تشتمل على اجتهادات في مجالات مختلفة

٢ـــ الردود النقدية 

٣ـــ المختصرات التي يدلي فيها أبن رشد بأراء إجتهادية ويعرض فيها ما يعتبره الضروري في الموضوع الذي يتناوله

من مؤلفات ابن رشد الحفيد رحمه الله: 1ــ كتاب التحصيل جمع فيه أختلاف العلماء 2ـــ شرح كتاب المقدمات في الفقه لجده نهاية المجتهد 3ــ كتاب الكليات في الطب 4ـــ شرح أرجوزة ابن سينا في الطب 5ــ جوامع كتب أرسطو في الطبيعيات والألهيات 6ـــ كتاب في المنطق تلخيص الألهيات لنيقولاوس 7ــ تلخيص ما بعد الطبيعة لأرسطو شرح السماء والعالم لأرسطو 8. تلخيص كتاب الأسطقسات لجالينوس 9. تلخيص كتاب المزاج وكتاب القوى وكتاب العلل 10. وكتاب التعرف 11. كتاب الحميات 12. كتاب حيلة البرء 13. تلخيص كتاب السماع الطبيعي لأرسطو 14. تهافت التهافت رد فيه على الغزالي 15. كتاب منهاج الأدلة في الأصول 16. كتاب فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الأتصال 17. شرح كتاب القياس لأرسطو 18. مقالة في العقل 19. مقالة في القياس 20. كتاب الفحص في أمر العقل 21. كتاب الفحص عن مسايل وقعت في الألهيات من الشفاء لابن سينا 22. مسألة في الزمان 23. مقالة فيما يعتقده المشاؤون والمتكلمون من أهل ملتنا 24. كتاب في كيفية وجود العالم متقارب المعنى 25. مقالة في نظر أبي نصر الفارابي في المنطق ونظر أرسطو 26. مقالة في أتصال العقل المفارق للأنسان 27. مباحثات بينه وبين أبي بكر ابن الطفيل في رسمه للدواء 28. مقالة في وجود المادة الأولى مقالة في الرد علي ابن سينا في تقسيمه الموجودات إلى ممكن على الأطلاق وممكن بذاته 29. مقالة في المزاج 30. مسألة في نوايب الحمي 31. مسايل في الحكمة 32. مقالة في حركة الفلك 33. مقالة فيما خالف فيه أبو نصر لأرسطو في كتاب(البرهان) 34. مقالة في الدرياق 35. تلخيص كتاب الأخلاق لأرسطو 36. تلخيص كتاب البرهان 37. مختصر المستصفي للغزاالي 38. كتاب في العربية وهو الضروري، وكن يحفظ ديوان أبي تمام، والمتنبي. 39. بداية المجتهد ونهاية المقتصد في الفقه علل فيه ووجه لا يعلم في فنه أنفع منه ولا أحسن مساقا ( ).

المطلب الثاني: مذهبه وعقيدته. مذهبه الفقهي: الإمام ابن رشد هو من ائمة الفقه على المذهب المالكي، ويعد من محققي مذهب المالكية وأصولهم، وقد اعترض على أصول المالكية، بقولهم بترك خبر الآحاد اذا خالف عمل أهل المدينة، واعتبر عمل أهل المدينة إذا وافق الخبر يعده سنداً للحديث، وقال ان في تركه لمخالفة العمل فيه نظر( ). مذهبه الفكري: • الانشغال بالفلسفة : حيث اعتبر ابن رشد رحمه الله تعالى: أن الشريعة لاتتعارض مع الحكمة والفلسفة، وردّ على من أبطل الفلسفة والانشغالَ بها بقوله: ليس يلزم من أنَّه إذا غوى غاوٍ، وزلَّ زالٌّ، إما من قبل نقص فطرته، وإما من قِبل سوء ترتيب نظره، من اجل أن قوماً من أراذل الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها، مثل من منع العطشان شرب الماء البارد العذب حتى مات من العطش، لأن قوماً شرقوا به فماتوا. فإن الموت عن الماء بالشرق أمر عارض، وعن العطش أمر ذاتي وضروري. ومن وجهة نظرنا، ان قول ابن رشد رحمه الله، ليس عارٍ عن الصحة فيما ذهب اليه، فالمسلم الحاذق الذي يميز الخبيث من الطيب، والجيد من الردئ لاخوف عليه اذا قرأ علم الفلسفة، بل هو زيادة اطلاع على مايفكر به المخالف، ومعرفة اباطيلهم، لكي يتسنى له الرد على ماتقولوا به من الاباطيل، والله اعلم. • القول بالتـأويل: قال ابن رشد رحمه الله: (معنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازة من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه " أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عددت، في تعريف أصناف الكلام المجازي) فقد شدَّدَ ابن رشد على منع القول بالتأويل الا لمن هو أهل له حتى يُتدارك بذلك القول في هذه المسائل، ومن ارائه في ذلك انه يتوقف عن تعريف الراسخين بالعلم الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم، بقوله تعالى: ٹٱٹٱ ُّٱ تح تخ تم ته ثم جحجم حج حم خج خم سج سح سخ سم صح صخصم ضج ضح ضخ ضم طح َّ .

المطلب الثالث: ثناء العلماء عليه: ذكر ابن الأبَّار فقال: لم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا. قال: وكان متواضعا، منخفض الجناح، عني بالعلم حتى حكي عنه أنه لم يترك النظر والقراءة مذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه وليلة عرسه( ). وقال ابن أبي أصيبعة: هو أوحد في علم الفقه والخلاف. تفقه على الحافظ أبي محمد بن رزق. وبرع في الطب. وألف كتاب الكليات أجاد فيه. وكان بينه وبين أبي مروان بن زهر مودة. ( ) . وقال شيخ الشيوخ ابن حمويه: لما دخلت البلاد، سألت عن ابن رشد، فقيل: إنه مهجور في بيته من جهة الخليفة يعقوب، لا يدخل إليه أحد؛ لأنه رفعت عنه أقوال ردية، ونسبت إليه العلوم المهجورة، ومات محبوسا . قال أبو القاسم ابن الطيلسان: سمعت كلامه بالمسجد الجامع من قرطبة وهو يحض الناس على الجهاد والغزو في سبيل الله ويورد ما جاء في فضله من كتاب الله تعالى وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بلسان طلق وإيراد مستحسن؛ قال: وخرجنا معه يوم ورود الخبر بهزيمة الروم على حصن الأركة صحبة علامات الطاغية أذفونش، فلما اجتمعنا مع الواصلين به وشاهدنا عندهم علامات العداة منكوسة سجد القاضي شكرا، وسجد جميعنا عند سجوده شكرا لله تعالى . المطلب الثالث منهجه في تأليف الكتاب حظي كتاب( بداية المجتهد) باهتمام كثير من الباحثين في العصر الحديث؛ فطبع عدة طبعات، وحققه أكثر من واحد( )، وعني بتخريج أحاديثه، ودراسة أسانيده، والحكم عليها، المحدث أحمد بن محمد بن صديق الغماري، (ت: 1380هـ)، وسَمَّى كتابه: " الهداية في تخريج أحاديث البداية"، في ثمانية مجلدات( ) وقد نال هذا الكتاب شهرة عالمية من خلال ترجمة بعض فصوله إلى لغات أوروبية؛ فقد ترجم الباحث الجزائري أحمد الأعمش عدة فصول من الكتاب إلى اللغة الفرنسية، ونشرها تباعاً من سنة:( 1926) حتى سنة (1940)، وقام المستشرق: ج. هـ. بوسكيه، والراهب فيريه، وليون برشيه بترجمة ثلاثة فصول أخرى من الكتاب نشرت في الجزائر وتونس في سنة: ( 194)، وسنة 1954م، وسنة:( 1955) م، وترجم فصلاً آخر من الكتاب المستشرق الألماني جريف، ونشر في بون سنة (1959)م ( ). تسمية الكتاب إن أول ما يستوقفنا في هذا الكتاب تسميته بـ " بداية المجتهد، ونهاية المقتصد"، فماذا قصد ابن رشد من هذا العنوان؟ يقول ابن منظور: والقَصْد في الشيء خلاف الإفراط، وهو ما بين الإسراف والتقتير. وقوله: " ومنهم مُقتصد" بين الظالم والسابق والجملة الأخيرة من النص تحيلنا إلى قوله تعالى چ ٿ ٿ ٿ ٹ ٹ ٹ ٹڤ ڤ ڤ ڤ ڦ ڦ ڦ ڦ ڄ ڄ ڄڄ ڃ ڃ ڃ ڃ چ( ) وعلى هذا يكون الاقتصاد في الفقه مرتبة متوسطة بين الاجتهاد، وهو أعلى مراتب الفقيه، وبين الابتداء في الفقه، والمقتصد في العرف الفقهي هو ما دون المجتهد، وما فوق المبتدئ وأما المجتهد فهو اسم فاعل من(اجتهد)، ومصدره اجتهاد. ويعرف ابن منظور الاجتهاد بأنه: " بذل الوسع والمجهود".( ) عرفه الشوكاني: بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط. فقوله: ( بذل الوسع) يخرج به ما يحصل مع التقصير دون بذل جهد، وقوله:( حكم شرعي) يخرج به الأحكام غير الشرعية كاللغوية، والفلسفية، وقوله " بطريق الاستنباط" يخرج بها نيل" الأحكام من النصوص ظاهراً، أو حفظ المسائل، أو استعلامها من المفتي( ) وأخلص من هذا إلى أن ابن رشد قصد من كتابه كما يظهر من التسمية أن يكون غاية ما يطمح إليه المقتصد المتوسط في الفقه، وبداية لمن أراد أن يرتقي إلى مرتبة الاجتهاد. يقول ابن رشد في آخر باب( الكتابة):

وذلك أنّ قصدنا في هذا الكتاب كما قلنا غير مرة هو أن نثبت المسائل المنطوق بها في الشرع: المتفق عليها، والمختلف فيها، ونذكر من المسائل المسكوت عنها التي شهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار، فإن معرفة هذين الصنفين من المسائل التي تجري للمجتهد مجرى الأصول، في المسكوت عنها، وفي النوازل التي لم يشتهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار، سواء نقل فيها مذهب عن واحد منهم أو لم يُنقل( ). 
ويظهر أن هنالك اختلافاً طفيفاً بين الاسم الذي ذكره ابن رشد آنفاً( بداية المجتهد وكفاية المقتصد)، وبين الاسم الذي اشتهر به الكتاب( بداية المجتهد ونهاية المقتصد) ويمكن تخريج اسم الكتاب على  أن ابن رشد ذكر اسم الكتاب بالمعنى، بدليل أنه قال في موضع آخر في كتاب الحج: " وهو جزء من كتاب( المجتهد) الذي وضعته منذ أزيد من عشرين عاماً، أو نحوها ( ). وهو يعني بكتاب المجتهد كتابه(  بداية المجتهد)، فمال إلى الاختصار في ذكره،  وكذلك صرّح ابن عبد الملك المراكشي، في كتابه( الذيل والتكملة) قال:  ويمكن أن نوفق بين التسميتين بأن نقول: إن لهذا الكتاب اسمين: أحدهما: ما صرح به مؤلفه، والآخر: ما اشتهر الكتاب به، كما في كتاب  (التبيان في إعراب القرآن) لأبي البقاء العكبري، الذي اشتهر أيضاً بعنوان: " إملاء ما مَنَّ به الرحمن" ( )

توثيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه

تفرّد ابن عبد الملك المراكشي بذكر نصّ عن ابن زرقون المالكي يتهم فيه ابن رشد بسرقة كتاب(  بداية المجتهد)، يقول ابن عبد الملك:

" ونقلت من خط التاريخي المقيّد المفيد أبي العباس بن علي بن هارون ما نصه: ( أخبرني محمد بن أبي الحسن بن زرقون أن القاضي أبا الوليد بن رشد استعار منه كتاباً ضمنه أسباب الخلاف الواقع بين أئمة الأمصار من وضع بعض فقهاء خراسان، فلم يرده إليه، وزاد فيه شيئاً من كلام الإمامين أبي عمر بن عبد البر، وأبي محمد بن حزم، ونسبه إلى نفسه، وهو الكتاب المسمى بـ " بداية المجتهد، ونهاية المقتصد"). قال أبو العباس بن هارون: والرجل غير معروف في الفقه، وإن كان مقدّماً في غير ذلك من المعارف" وقد رد الدكتور محمود علي مكي على هذا الاتهام بقوله:

ان ما يلفت النظر في اتهام ابن زرقون أنه لم يحدد اسم ذلك " الفقيه الخراساني" ولا عنوان مؤلّفه الذي زعم أن ابن رشد سطا عليه. ولو كان الاتهام صحيحاً لما توارى صاحبه خلف كتاب مجهول، لمؤلف مجهول( ) .

وعزا الدكتور مكي سبب هذه التهمة إلى الحسد، والتنافس بين العلماء. ثم إن نص الكتاب يثبت أنه لابن رشد، فقد نقل عن جده ابن رشد الأكبر في أكثر من موضع؛ فقال في مسألة اختلاف الفقهاء في القراض: " وهو اختيار ابن حبيب واختيار جدّي – رحمة الله عليه-( ). ، وقال في مسألة سؤر الكلب:" وقد ذهب جدي رحمة الله في كتاب(المقدمات) إلى أن هذا الحديث معلل معقول المعنى( ). كما كان يعرض آراءه الطبية في بعض المسائل الفقهية. يقول في كتاب الجنائز: " ويستحب تعجيل دفنه لورود الآثار بذلك، إلا الغريق مخافة أن يكون الماء قد غمره فلم تتبين حياته. قال القاضي: وإذا قيل هذا في الغريق فهو أولى في كثير من المرضى، مثل الذين يصيبهم انطباق العروق، وغير ذلك مما هو معروف عند الأطباء، حتى لقد قال الأطباء: إن المسكوتين لا ينبغي أن يدفنوا إلا بعد ثلاث" ( ) وقال في مسألة حيض الحامل: " وبذلك أمكن أن يكون حمل على حمل على ما حكاه بقراط، وجالينوس، وسائر الأطباء . ويقول في موضع آخر: " وفي حسّ العظام اختلاف. والأمر مختلف فيه بين الأطباء" وفي موضع آخر: " فلنفوض أمثال هذه المصالح إلى العلماء بحكمة الشرائع، الفضلاء الذين لا يتهمون بالحكم بها... كما في أشياء كثيرة من الصنائع يعرض فيها للصناع الشيء وضدّه مما اكتسبوا من قوة مهنتهم، إذ لا يمكن أن يُحَدَّ في ذلك حَدٌّ مُوَقَّتٌ صناعي، وهذا كثيراً ما يعرض في صناعة الطب وغيرها من الصنائع المختلفة" وكان لا يتقيد برأي الإمام مالك، بل يذكر أقوال الفقهاء من الصحابة، ومن بعدهم، والغالب على الفقهاء في عصر ابن رشد التقيد بالمذهب، ولا يتحرر من ربقة التقيد بمذهب بعينه، والانتصار له إلا مفكر يبحث عن الحق( ). فإن التهمة التي الصقها ابن زرقون بابن رشد، تهمة باطلة، لا تثبت أمام النقد العلمي، وتظل قولاً لا سند له، وهي بحاجة إلى ما يعضدها من الأدلة والبينات، ولعل منشأ هذه التهمة التنافس الذي يقع كثيراً بين الأقران، وما أجمل قول الذهبي في هذا الصدد: " كلام الأقران يطوى، ولا يروى( ). ثم أن هنالك فقهاء أَثباتٌ ترجموا لابن رشد، وآخرين نقلوا عنه في كتب الفقه، صرحوا بنسبة الكتاب لابن رشد، فممن ترجموا لابن رشد ابن فرحون، والقضاعي، والذهبي( )، وممن نقل عنه محمد بن عبد الرحمن المغربي (ت 954هـ) ( ) في (مواهب الجليل)، والشوكاني( ت: 1255هـ) في نيل الأوطار( ) . سنة تأليف الكتاب ظنّ الدكتور محمود علي مكي أن ابن رشد قد صرّح بسنة تأليف الكتاب، واستدل بقول ابن رشد في آخر كتاب الحج: " وبتمام القول في هذا بحسب ترتيبنا تم القول في هذا الكتاب بحسب غرضنا، ولله الشكر والحمد كثيراً على ما وفق وهدى ومنّ به من التمام والكمال. وكان الفراغ منه يوم الأربعاء التاسع من جمادى الأولى الذي هو عام: أربعة وثمانين وخمسمائة"، وهو جزء من كتاب المجتهد الذي وضعته منذ أزيد من عشرين عاماً أو نحوها". وهذا التاريخ سنة(584هـ) ليس تاريخ وضع الكتاب، بل هو تاريخ الانتهاء من كتاب الحج، لأن ابن رشد كان يطلق على الأبواب الكبرى في كتابه اسم (كتب) فيقول كتاب الصوم، كتاب الزكاة. وكان يصرح بهذا في نهاية كل كتاب، فمثلاً يقول في نهاية كتاب الزكاة: هذا ما رأينا أن نثبته في هذا الكتاب، وإن تذكرنا شيئاً مما يشاكل غرضنا ألحقناه به إن شاء الله" . وكذلك الأمر في نهاية معظم أبواب الكتاب، مثل: الاعتكاف، الجهاد، الأيمان، النذور، الضحايا، الذبائح . ولا يستقيم كلام الدكتور مكي السابق إلا إذا قدّرنا أنّ كتاب( الحج) هو آخر أبواب( بداية المجتهد) ، ولو صح أن كتاب الحج هو آخر أبواب الكتاب كما ذكر الدكتور مكي، لكان تاريخ وضع الكتاب قبيل سنة( 564هـ)، وتاريخ إضافة كتاب( الحج) سنة( 584هـ)، ومما يدحض هذا القول – في رأينا- قول ابن رشد في آخر كتاب الأقضية في آخر الكتاب: "كمل كتاب الأقضية، وبكماله كمل جميع الديوان" فاستخدم مصطلح(الديوان) لأنه يجمع جميع الأبواب الفقهية التي سماها ابن رشد " كتباً"، ولم أجده يستخدم لفظة( الديوان) في غير هذا الموضع، بخلاف " الكتاب" الذي تكرر استخدامه في نهاية كل مبحث كما تقدم، وكان يقصد به الباب مما يؤيد أن آخر أبواب الكتاب باب الأقضية، لا باب الحج. ومنهم من يرى أن كتاب( المجتهد) هو كتاب " بداية المجتهد" نفسه، وعادة المصنفين أن يعودوا إلى ما صنفوه، ويُعْمِلوا فيه يد الإصلاح بالحذف والزيادة، والتقديم والتأخير، وإضافة فصول كثرت الحاجة إليها لم تكن أضيفت من قبل، ويزيد قولنا قوة أمران:

أولاً: ما ذكره ابن رشد آنفاً أن كتاب الحج جزء من كتاب(المجتهد)، ولا يضاف إلى الكتاب إلا ما هو من جنسه، وكتاب الحج في منهجه، وترتيبه، وعرض مسائل الفقه لا يختلف عن كتاب: " بداية المجتهد". أما ما ذكره الدكتور مكي  أن كتاب(     المجتهد) قد يكون هو الكتاب الذي أشار إليه ابن رشد بقوله في معرض الحديث عن عمل أهل المدينة: " وقد تكلمنا في العمل وقوته في كتابنا في الكلام الفقهي، وهو الذي يدعى بأصول الفقه  

فظاهرٌ أن الكتاب الذي أشار إليه ابن رشد كتاب في علم أصول الفقه الذي يهتم ببحث الأدلة الإجمالية في الفقه، لا الأدلة التفصيلية التي هي من شأن علم الفقه، وكتاب( بداية المجتهد)، ومنه كتاب( الحج)- يهتم بذكر الأدلة التفصيلية. الثاني: أن كل من اطلعنا عليهم ممن ترجموا لابن رشد لم يذكروا له كتاباً باسم (المجتهد)، ولا يعقل أن يفهموا من كلام ابن رشد السابق أن له كتاباً باسم:( المجتهد)، ثم لا يدرجوه في ثَبَت مصنفاته. وبعد هذا التَّطواف في "بداية المجتهد" نوَدّ أن نسجل أبرز النتائج التي توصلنا إليها في النقاط التّالية: 1. كان الدّافع وراء ترجمة الكتاب إلى لغات أوروبّيّة هو ما ناله ابن رشد من شهرة عالمية من خلال بحوثه في مجال الطب، فضلاً عمّا يتميز به الكتاب نفسه. وكان حرص غير المسلمين على ترجمة بعض فصول الكتاب، من باب الاطلاع على أديان الآخرين وتشريعاتهم، والإفادة من أحكام التشريع الإسلامي في قوانينهم الوضعية. 2. قصد ابن رشد من كتابه:"بداية المجتهد ونهاية المقتصد" كما يظهر من التسمية أن يكون غاية ما يطمح إليه المقتصد المتوسط في الفقه، وبداية لمن أراد أن يرتقي إلى مرتبة الاجتهاد. 3. اشتهر هذا الكتاب بتسميتين: أولاهما ما صرح به مؤلفه:"بداية المجتهد وكفاية المقتصد"، والأخرى ما اشتهر الكتاب به:"بداية المجتهد ونهاية المقتصد". 4. إن التهمة التي الصقها ابن زرقون بابن رشد، بأنه انتحل كتاب "بداية المجتهد" تهمة باطلة، لا تثبت أمام النقد العلمي، وتظل قولاً لا سند له، وهي بحاجة إلى ما يعضدها من الأدلة والبينات. 5. لم يصرّح ابن رشد بسنة تأليف كتابه أما سنة( 584هـ) التي ظنّ الدكتور مكّيّ أنها سنة وضع الكتاب، فهي تاريخ الانتهاء من كتاب الحج، وهو جزء من "بداية المجتهد" وليس آخر أبواب الكتاب. 6. كتاب( المجتهد) الذي أشار إليه ابن رشد هو كتاب " بداية المجتهد" نفسه، وليس كتاباً آخر .

المبحث الثالث : عصره وفيه ثلاث مطالب: المطلب الاول الحالة العلمية:

اهم ما اشتهر فيه ابن رشد (رحمه الله) أولاً: علم الفقه: ويشهد له بذلك كتابه: ( بداية المجتهد)، الذي يقول فيه ابن فرحون: "ذكر فيه أسباب الخلاف فأجاد وأمتع به، ولا يُعْلَم في وقته أنفع منه، ولا أحسن منه سياقاً( ). قال ابن الأبار: لم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا، وكان متواضعا، منخفض الجناح، يقال عنه: إنه ما ترك الاشتغال مذ عقل سوى ليلتين: ليلة موت أبيه، وليلة عرسه، وإنه سود في ما ألف وقيد نحوا من عشرة آلاف ورقة، ومال إلى علوم الحكماء، فكانت له فيها الإمامة، وكان يفزع إلى فتياه في الطب، كما يفزع إلى فتياه في الفقه( ). ثانياً: علم أصول الفقه:

يقول ابن فرحون:  ودرس الفقه والأصول وعلم الكلام، ولم ينشأ بالأندلس مثله كمالاً، وعلماً، وفضلاً ( )

ومن يقرأ كتاب( بداية المجتهد) بتمعن يتبين له بجلاء مقدار تضلع ابن رشد منه، وقد أشار ابن رشد في كتابه السابق إلى أنّ له كتاباً في علم أصول الفقه، يقول في معرض حديثه عن عمل أهل المدينة ( ).

ثالثا: علم الحديث:

ومما يدلّل على معرفته بالحديث، ما كان يحكم به على بعض الأحاديث في كتابه: ( بداية المجتهد)، كقوله عن حديث عبد الرحمن بن أبي عمار في جواز أكل الضبع: "وهذا الحديث وإن كان انفرد به عبد الرحمن فهو ثقة عند جماعة أئمة الحديث، وكان يعتمد كثيراً على الحافظ ابن عبد البَر المالكي، كقوله في حديث:((   لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين))" قال أبو عمر بن عبد البر: ضعَّف أهل الحديث حديث عمران وأبي هريرة؛ لأن حديث أبي هريرة يدور على سليمان بن أرقم، وهو متروك الحديث. وحديث عمران بن الحصين يدور على زهير بن محمد عن أبيه، وأبوه مجهول لم يرو عنه غير ابنه، وزهير أيضاً عنده مناكير، ولكنه خرجه مسلم من طريق عقبة بن عامر( ) 

خامساً: علم العربية: قال ابن فرحون: " حُكِيَ عنه أنه كان يحفظ شعر المتنبي( ) وحبيب ( ). وله تآليف جليلة الفائدة، وله كتاب في العربية الذي وسمه بالضروري . وقد نسب ابن سعيد المغربي لابن رشد هذه الأبيات: ما العِشْقُ شَأني، ولكِنْ لستُ أنْكِـرُه كـمْ حَـلَّ عُقْـدةَ سُلْواني تَذَكُّرُه مَنْ لي بِغَضِّ جُفوْني عَنْ مُخبِّرة ألـ أجْفانِ قَدْ أظهرتْ ما لَسْتُ أُضْمِرُهُ لولا النُّهـى لأطَعْـتُ اللَّحْظَ ثانيـةً فيمَنْ يَرُدُّ سنـا الألحـاظِ مَنْظرُه مَـاْ لابنِ ستيـن قــادَتْـهُ لغايَتِـهِ عَشْرِيَّـةٌ فَنَـأى عَنْـهُ تَصَبُّـرُهُ قَدْ كان رَضْوى وَقَاْراً فَهْو سـافيـةٌ الحُسْنُ يُوْرِدُه، والهُوْنُ يُصْـدِرُهُ سادساً: الطب: يقول ابن أبي أصيبعة:( ) "وله في الطب كتاب( الكليات)، وقد أجاد في تأليفه، ومن كلام أبي الوليد ابن رشد قال: من اشتغل بعلم التشريح ازداد إيماناً بالله" وقد تُرجم كتاب الكليات إلى اللاتينية، وانتشر في العالم الغربي بعنوان:( COLLIGET). وقد نشر مؤخراً نصه العربي بعناية لفيف من العلماء، واضح أن التسمية اللاتينية ما هي إلا نقل للعنوان العربي بالحروف اللاتينية مع تغيير طفيف. ( ). وكاد كتابه في الطب ينسى بسبب شهرته الواسعة في الفلسفة، ولكنه كان في الحقيقة من أعظم أطباء زمانه، فقد كان أول من شرح وظيفة شبكية العين، وقال إن من يمرض بالجدري يكتسب الحصانة من هذا الداء ، وكانت موسوعته الطبية المسماة كتاب الكليات في الطب بعد أن ترجمت إلى اللغة اللاتينية واسعة الانتشار في الجامعات المسيحية ( ).

  سابعاً: الفلسفة:

ذكر ابن خلدون في تاريخه ايضا: أنَ إمام الفلسفة في ذلك العصر هو ((ابن رشد الحفيد رحمه الله( ). ومن اراء ابن رشد الفلسفية انه كان يقول: كما قال (فرانسيس بكن) من بعده إن من الفلسفة قد يميل الإنسان إلى المروق من الدين، ولكن الدرس الواسع يؤدي إلى الائتلاف بين الفلسفة والدين. ذلك أن الفيلسوف، وإن كان لا يأخذ تعاليم القرآن، والتوراة، وغيرهما من الكتب المنزلة بمعناها الحرفي يدرك أنها لا غنى عنها لإنماء روح التقوى الطيبة والأخلاق السليمة في عقول الناس، الذين تشغلهم مطالب الحياة الملحة فلا يجدون من الوقت ما يكفي لغير التفكير العارض، السطحي، الخطر في مبادئ الأشياء وأواخرها. ومن ثم فإن الفيلسوف الناجح لا ينطق بلفظ أو يشجع لفظاً يعرض الدين ، ومن حق الفيلسوف في مقابل هذا أن يترك حراً يسعى وراء الحقيقة، ولكن عليه مع ذلك أن يحصر مناقشاته في دائرة المتعلمين ومداركهم وقد ألّف الشرح الشهير لكتاب أرسطو. وذكره دانتي في كتابه: الكوميديا الإلهية، وهو الذي أثنى عليه حتى الراهب سافونارولا ( Savonarolla)( ) وقال فيه: "رجل كانت له عبقرية ربانية، وكان مكباً على الدرس ومنهمكاً فيه( ). ودافع ابن رشد عن الفلسفة في كتابه تهافت التهافت، ورد بعنف على الإمام الغزالي (ت: 505 هـ)، ووضح ابن رشد في كتب أخرى بأن الفلسفة لا تتنافى مع الدين، وألف كتاباً صغيراً سماه (فصل المقال فيما بين الشريعة والفلسفة من الاتصال) وفي عام 503 هـ صدرت أوامر علي بن يوسف بحرق كتب الغزالي وبخاصة كتاب إحياء علوم الدين، فتم إحراقها في المغرب والأندلس، واستمرت دولة المرابطين في سياستها هذه إلى آخر عهدها، حيث وجهت رسالة في عام 538 هـ من قبل تاشفين ابن علي إلى أهل بلنسية، يحدد فيها مناط الفتيا ومصدر الأحكام وهو مذهب مالك، ومحاربة البدع وكتبها وبخاصة كتب الغزالي، وقد استند الفقهاء في تبرير ذلك إلى احتواء كتاب الإحياء على علم الكلام والفلسفة. وهذا الأمر يدل على أن الدولة كانت خاضعة لسلطة الفقهاء، ويدل أيضاً على أن المذهب المالكي كانت له السيطرة على الجميع، وربما كان ذلك بسبب ما وجد في كتاب الإحياء من هجوم على طبقة العلماء والفقهاء الذين يتخذون من العلم والدين مطية لتحقيق أطماع دنيوية من ثراء وجاه. وقد عارض بعض قضاة الأندلس عملية الإحراق هذه، ويأتي في مقدمتهم قاضي المرية أبو الحسن البرجي(( . وبعد ذلك كله اتهم ابن رشد بالزندقة لكثرة أبحاثه، فأحرقت كتبه الفلسفية جميعها في عهد دولة الموحدين، على عهد الخليفة المنصور، واحتفظ له بالكتب الطبية والرياضية ( ). وأول من أدخل فلسفة ابن رشد إلى أوروبا ميخائيل سكوت عام 1230 م، ولم يأت منتصف القرن الثالث عشر حتى كانت جميع كتب هذا الفيلسوف قد ترجمت إلى اللغة اللاتينية، ورسالة حي بن يقظان لمؤلفها أبي بكر بن طفيل، ترجمت إلى العبرية في القرن الرابع عشر الميلادي، وإلى اللاتينية في القرن الخامس عشر الميلادي، وبتوالي السنون ظهرت ترجمات بلغات مختلفة لهذه الرسالة ( ) لاحظ ابن رشد أن من أعراض الأزمة السياسية والفكرية تخلي الطبقة الحاكمة المتألفة من القادة والأئمة والعلماء عن مبادئهم العقلية، واتخاذهم موقفا معاديا للعلم والعقل. كما لاحظ أن مواطنيه لم يلتزموا وظائف اجتماعية محددة، بل لم يشتغلوا بصنعة واحدة، وانساقوا وراء أغراض مختلفة متناقضة، وانشغلوا بصنائع متعددة. المطلب الثاني: الحياة الاجتماعية تربية المجتمعات تحدد وظيفتها في حفظ الناشئة في بدنها حفظا طبيا، وفي عقلها ولسانها حفظا تربويا أخلاقيا. والفيلسوف المربي، حتى يوفق في ذلك، يجب أن يكون مطلعا على العلوم النظرية ومكتسبا حنكة الدهر. هذه الحنكة هي التي تدل على التمرس بقواعد الصناعة الفلسفية التربوية وتخرج عمله النظري إلى التطبيق والتجربة،ومن شروط المجتمع الفاضل قيامه على علاقات تبادلية بين أطرافه، بحيث لا مجال فيه للانعزال والاغتراب والانكفاء على الذات، وفي ضوء هذه المفاهيم جعل الامام ابن رشد مبادئَ للتعايش ومنها:

الانعزال نزعة سلبية: إن أبرز آراء ابن رشد هي إيمانه المطلق بضرورة الانفتاح على الآخر، وعدم الانعزال والتقوقع على الذات الذي يعتبره انحرافا في السلوك تترتب عليه مساوئ وأضرار اجتماعية كثيرة. ينادي ابن رشد بتحقيق الانفتاح على مستويين اثنين: اجتماعي وثقافي فكري. 1ـ على المستوى الاجتماعي

	لاحظ ابن رشد أنه في خضم الصراعات والفتن السياسية والفكرية تنتشر النزعة الانعزالية بين الناس على اختلاف طبقاتهم ووظائفهم، وهذه النزعة علة تصيب الإنسان لخلل يلحق توازنه النفسي، وهي تتعارض مع ما جبل عليه من ميول نحو الاجتماع والأنس.

يرى ابن رشد أن حياة التوحد والانعزال لا تثمر صناعات ولا علوما، وواجب الإنسان أن يأخذ بنصيبه في إسعاد نفسه والتمتع بفرص الحياة الدنيوية وإسعاد المجموع. وهذا يقتضي من كل فرد أن يؤدي دوره الاجتماعي ووظيفته المؤهل لها . وقد نالت المرأة أيضا حظها من اهتمام ابن رشد ولم يهملها، فنادى بضرورة إشراكها في تحمل نصيبها من خدمة المجتمع وأداء دورها في إنتاج الثروة المادية والثقافية وفي حفظها. مثلها مثل الرجل. فعلى النساء أن يقمن بنفس الأعمال التي يقوم بها الرجال، ولا تقتصر وظيفتهن على النسل وخدمة بعولتهن. فإن ذلك مبطل لدورهن الحقيقي. وقد تطرق في كتابه بداية المجتهد لموضوع ولاية المرأة المناصب الإدارية الشرعية كالقضاء. وأورد في ذلك أقوال عدد من العلماء والفقهاء. وكتب في جوامع سياسة أفلاطون: "ولما حرمت النسوة مشاركة الرجال في الفضائل الإنسانية، كان الكثير منهن شبيها بالنبات، وكن عالات على الرجال، فإنهن لا يقمن بالأعمال الضرورية، بل يقمن بأعمال غير ذات أهمية تملأ الفراغ كالغزل والنسيج" .وهذا الكلام ينم عن احتقار للعمل اليدوي المتمثل في الغزل والنسيج، ولا نظن أن إماما فقيها مجتهدا وفيلسوفا كبيرا كابن رشد يصدر عنه ذلك، لكن الترجمة عن أفلاطون هي التي أوقعته في الغلط ولم يلتفت إليه. إنه لا يختلف اثنان حول الأهمية الاقتصادية والاجتماعية للنسيج والغزل ولتربية الصبيان، لكن الفلسفة اليونانية تريد النساء حكيمات مشتغلات بالنظر العقلي، والوظائف القيادية والولاية مثل الرجال. إلا أن القول يتضمن دعوة إلى إقرار حقها في التعلم والتكوين بشكل مساو للرجل. 2 ـ وعلى المستوى الثقافي الفكري:

يحث ابن رشد(رحمه الله)  على ضرورة الانفتاح على الفكر الآخر، وعدم الانغلاق الثقافي، مع الحرص على إخضاع الفكر الآخر لأحكام الشرع والنظر في مدى موافقته لأحكامه. وفي ذلك اجتهاد وعمل عقلي لا يكتفي العالم المتعلم بما جاء به السابقون: "يجب علينا، إن ألفينا لمن تقدم من الأمم السالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها، بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم" .وبهذا نضمن ممارسة المعرفة الحق والتحرر من الانغلاق الفكري والمذهبي وتفتحا على الغير. والدعوة للتواصل مع الغير تتضمن نداء لاختراق أفكار وثقافات مغايرة والتفاعل معها.

وقد عبر ابن رشد(رحمه الله) عن تصور جديد لاختلاف الآخر المخالف لنا في العقيدة، تصور ناتج عن احتكاك ابن رشد بمجتمعات معاصرة له مختلفة تماما عايشها وأخرى قديمة خبر أحوالها من خلال تراثها الذي قرأه ودرسه وبحثه. ويستفاد من آراء أبي الوليد أن الاحتكاك بالاختلاف يكون إيجابيا إذا كنا قادرين على مقابلته وموازنته بالنظام القيمي الذي ننطلق منه ونؤسس عليه مشاهداتنا وتأملاتنا للمغايرة والاختلاف. وهذا النظام القيمي يجب أن يكون الإسلام. فإذا كانت الحكمة حسب التعريف الرشدي: هي النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الخالق، فإن الشريعة تبصر الإنسان بحقيقة الوجود أي بالخالق والمخلوقات وما بينهما من علاقة. وترسم إلى جانب ذلك منهجا للسلوك الفردي والجماعي الكفيل بتحقيق سلامة الفرد والمجتمع هاديا إلى الأسلوب الأصح في الممارسة والتطبيق. والتربية: هي وسيلة الشريعة في ضبط مسار الناس وتوجيههم، وتبصيرهم بما يضمن سلامتهم، ويحقق كمالهم. وتزود العقل المسلم بمعايير قارة للتمييز بين الخبيث والطيب، وتشكل معالم الشخصية المسلمة مع الحرص على تحديد الهوية الإسلامية وإبراز معالمها وحمايتها من الذوبان في خضم الاحتكاك والتفاعل مع الثقافات الأخرى. البعد التربوي للشريعة والحكمة: يقول ابن رشد إن الشريعة تدعو إلى التأمل والتدبر وتوجب النظر الفلسفي واستعمال البرهان المنطقي لمعرفة الله والبرهنة على وجوده من خلال موجوداته. وساق لذلك آيات من القرآن الكريم تحث على استعمال العقل والنظر في الموجودات. وما يراه أيضا أن الشريعة، وإن كان الوحي مصدرها، فهي لا تخالف العقل ولا تناقضه. "فالعقل يخالطها" والشرائع العقلية الوضعية المجردة من الوحي تكون أنقص من الشرائع السماوية التي استنبطت من العقل والوحي . والشريعة: هي صناعة مدنية ضرورية للاجتماع، تأخذ مبادئها من العقل والوحي. وتتضمن توجها تربويا أساسه تربية الفرد حتى يغدو صالحا، يعمل على بلوغ كماله الإنساني، ويسعى لتحصيل سعادة نفسه وجماعته، في حياته الدنيوية والأخروية. فهي ضرورية لتحصيل الفضائل الخلقية للإنسان. هذه الفضائل لا تتمكن إلا بمعرفة الله تعالى وتعظيمه بالعبادات المشروعة. ويقدم ابن رشد لذلك مثلا بالصلاة التي هي ليست مجرد ركوع وسجود. بل لها بعد تربوي يتجلى في نهينا عن الفحشاء والمنكر. أما الفلسفة: فهي تنحو نحو تعريف سعادة بعض الناس العقلية" وسبيل ذلك تعلم الحكمة. وهي لا تتوجه للجمهور وعموم الناس، بل تقصد بخطابها فئة خاصة من الأفراد القادرين على استيعابها. وهذا الصنف الخاص من الناس إنما يتم وجوده وتحصيل سعادته بمشاركة الصنف العام. لذلك فالتربية الشرعية ضرورية وأساسية، لأنها تنشئ الأفراد عامة على الفضائل الشرعية، وتحقق تعليما عاما وضروريا، للفئة الخاصة الحكيمة. إن الشريعة تعم الناس كافة بالخطاب. وتربي الجمهور عامة، تربية أساسية مشتركة. فهي "تنحو نحو الحكمة بطريق مشترك للجميع، لذلك فهي واجبة". "ومع ذلك فلا نجد شريعة من الشرائع إلا وقد نبهت فيما يخص الحكماء وكتبت بما يشترك فيه الجمهور" إن التربية الشرعية تؤثر في وقت الصبا والمنشأ، وعند الانتقال إلى زمن الرشد، فلا يجب على الفيلسوف أن يستهين بما نشأ عليه من تربية دينية. بل عليه أن يتأول ذلك أحسن تأويل، وأن يعلم أن المقصود بذلك التعليم الديني هو ما يعم لا ما يخص. فإذا نشأ الإنسان على الفضائل الشرعية كان فاضلا بإطلاق. والحكمة أيضا تتفق مع الشريعة في هذا المنحى. وتدعو إلى تربية الناشئة على الفضائل والأخلاق الحسنة. وتحذر مما يمكن أن يؤدي إلى عكس هذه النتيجة. ففي جوامع سياسة أفلاطون رسم ابن رشد منهجا لتربية الصبيان، اقترح فيه وسائل لحماية أخلاق الناشئة وتربية أذواقها تربية سليمة.. وحذا في ذلك حذو أفلاطون في التحذير من إسماع الصبيان الحكايات الخرافية الكاذبة، فضررها يفوق ضرر إصابة جسم الصبي بالثلج، على حد تعبير ابن رشد، "ونحذر –كما يقول أفلاطون– من أن نعود نفوسهم سماع الأقاصيص السافلة أكثر مما نحذر من إصابة أجسامهم بالثلج كما يدعو إلى حماية الناشئة من سماع سيء الشعر ورديئه الذي يتضمن دعوة إلى الرذيلة والفسق والفجور ويتعارض مع الأخلاق الحميدة والعفة ويهدد الفضيلة: "فاعلم أن أشعار العرب مليئة بهذه الأمور الشريرة، وضرره كبير على النشء في الصبا" ثم إن مبادئ العمل يجب أن تؤخذ تقليدا. إذ إنه لا سبيل إلى البرهان على وجوب العمل إلا بوجود الفضائل الحاصلة على الأعمال الخلقية والعملية. والفلاسفة يرون في الشرائع هذا الرأي. أي الأخذ بالتقليد من الأنبياء والواضعين مبادئ العمل والسنن المشروعة في الملة. فيجب على كل إنسان أن يسلم بمبادئ الشريعة ويقلد فيها. والممدوح عند الفلاسفة من هذه المبادئ الضرورية هو ما كان منها أحث للجمهور على الأعمال الفاضلة حتى يكون الناشئون عليها أتم فضيلة من الناشئين على غيرها

مراعاة الخطاب الشرعي لقدرات الناس: يقول في كتاب فصل المقال: إن مقصود الشارع هو تعليم العلم الحق والعمل الحق. أما العلم الحق فهو الذي ينحصر في معرفة الله تعالى ومعرفة الموجودات على حقيقتها، ومعرفة السعادة والشقاء الأخروي، والعمل الحق هو عمل ما يفيد السعادة ويتجنب ما يفيد الشقاء. وطرق التعليم اثنان، التصور والتصديق. والتصور يكون إما بتصور الشيء نفسه أو مثاله. والتصديق يكون إما بالبرهان أو بالجدل أو بالخطابة: "الناس في الشريعة على ثلاثة أصناف: 1ــ صنف ليس من أهل التأويل أصلا. وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب. وذلك أنه ليس يوجد أحد سليم العقل يعرى من هذا النوع من التصديق. 2ــ وصنف هو من أهل التأويل الجدلي، وهؤلاء هم الجدليون بالطبع فقط أو بالطبع والعادة. 3ــ وصنف هم من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع والصناعة أعني صناعة الحكمة" المطلب الثالث: الحالة السياسية: مما سبق تبين ان الامام ابن رشد رحمه الله من عائلة علمية، حافلة بتأليف العلوم واستنباط المسائل في الحوادث التي تطرأ على الدولة الاسلامية آنذك، وكل هذا جعل للامام ابن رشد مكانة عند العلماء وعند الحكام، ومن هذه المكانة التي احتلها في دولة الموحدين. مكانته عند الموحدين اتصل ابن رشد الحفيد بمؤسس الدولة الموحدية (عبد المؤمن بن علي) حيث سافر إلى حاضرة مراكش بدعوة منه سنة 548 هـ لاستشارته في إقامته المدارس التي أراد إنشاءها بمراكش وعاد بعدها على عجل إلى الأندلس. وفي عهد السلطان أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن حظي الإمام ابن رشد بمكانة عظيمة، حيث ولاه السلطان قضاء إشبيلية سنة 565هـ ولبث في هذا المنصب عامين. ، وكان أبو بكر بن طفيل هو الواسطة بين أبي يعقوب يوسف والإمام بن رشد حيث ذكر فضله للسلطان ومكانة الأسرة الرشدية في العلم. ثم إن السلطان كان شغوفا بأرسطو وكتبه وكانت بنفسه رغبة شديدة في الظفر بمن يشرح له أرسطو شرحا وافيا واضحا، فالتمس ذلك من ابن رشد بطلب من ابن طفيل، بعد ذلك عاد الإمام إلى قرطبة لشرح كتب أرسطو بعد وعده السلطان بذلك، وقام بالمهمة على أتم وجه خلال عامين، ولاه بعدها الأمير قضاء قرطبة ثم دعاه إلى مراكش سنة 578هـ وجعله طبيبه الخاص عوضا عن ابن طفيل وبرغبة منه، ثم قفل إلى قرطبة راجعا بخطة قاضي القضاة ولبث في هذا المنصب السامي اثنتي عشرة سنة، وكان والده أبو القاسم وجده قد تولاها قبله. ولما توفي أبو يعقوب يوسف سنة 580هـ تولى الإمام منزلة راقية في إمارة يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الملقب بالمنصور وصار مكينا وجيها في دولة السلطان يعقوب بن يوسف .

المطلب الرابع: محنته ووفاته: كان الإمام ابن رشد أحد سلاطين الفكر الفلسفي الإسلامي وأستاذ الفلاسفة في زمنه وإماما في معرفة علوم الأوائل، وإذا أضيف هذا للوجاهة التي تأثلت له عند الملوك يتضح أن حساده وأعداءه أحسنوا الإفساد بينه وبين السلطان يعقوب المنصور إذ إنهم اتهموه بالإلحاد والزندقة وأغروه به، وألحوا عليه في قتله بدعوى حماية الشريعة من شره وما أدخله من فلسفة اليونان. ولكن السلطان أبى واكتفى بعقد مجلس للمحاكمة وكان ذلك بجامع قرطبة سنة 591هـ خلالها قرئت كتبه وتعمد قارؤوها تحريف معانيها حتى تساير ما يريدون وخرجوا معانيها ومبانيها أسوأ المخارج وصدر بعد الحكم على الإمام بحرق كتبه كلها ما عدا المتعلقة بالطب والفلك والحساب وبنفيه خارج قرطبة بثلاثين ميلا حيث قرية تدعى اليسانة يسكنها اليهود وبعد هذا الحكم ضج الناس بقرطبة وإشبيلية فأصدر السلطان كتابا برر فيه الحكم بالدفاع عن الدين وحذر من تآليف الإمام وغيره ممن امتحن معه من العلماء وقرئ ذلك بالمساجد وأرسل إلى سائر أنحاء البلاد. سبب المحنة:

أنه أخذ في شرح كتاب((الحيوان)) لأرسطوطاليس فهذبه، وقال: فيه عند ذكر الزرافة: رأيتها عند ملك البربر. كذا غير ملتفت إلى ما يتعاطاه خدمة الملك من التعظيم، فكان هذا مما أحنقهم عليه، ولم يظهروه.

ثم إن قوما ممن يناوئه بقرطبة ويدعي معه الكفاءة في البيت والحشمة سعوا به عند أبي يوسف بأن أخذوا بعض تلك التلاخيص، فوجدوا فيه بخطه حاكيا عن بعض الفلاسفة قد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة. فأوقفوا أبا يوسف على هذا، فاستدعاه بمحضر من الكبار بقرطبة، فقال له: أخطك هذا؟ فأنكر، فقال: لعن الله كاتبه، وأمر الحاضرين بلعنه، ثم أمر بإخراجه مهانا. وبإبعاده وإبعاد من يتكلم في شيء من هذه العلوم، وبالوعيد الشديد. وكتب إلى البلاد بالتقدم إلى الناس في تركها، وبإحراق كتب الفلسفة، سوى الطب، والحساب، والمواقيت. ثم لما رجع إلى مراكش نزع عن ذلك كله، وجنح إلى تعلم الفلسفة، واستدعى ابن رشد للإحسان إليه، فحضر ومرض، ومات في آخر سنة أربع. قال الموفق أحمد بن أبي أصيبعة : إن المنصور نقم على أبي الوليد، وأمر بأن يقيم في بلد اليسانة، وأن لا يخرج منها، ونقم على جماعة من الأعيان، وأمر بأن يكون في مواضع أخر لأنهم مشتغلون بعلوم الأوائل. والجماعة أبو الوليد، وأبو جعفر الذهبي، ومحمد بن إبراهيم قاضي بجاية، وأبو الربيع الكفيف، وأبو العباس الشاعر القرابي. ثم إن جماعة شهدوا لأبي الوليد أنه على غير ما نسب إليه، فرضي عنه وعن الجماعة، وجعل أبا جعفر الذهبي مزوارا للأطباء والطلبة. ومما كان في قلب المنصور من أبي الوليد أنه كان إذا تكلم معه يخاطبه بأن يقول: تسمع يا أخي. واعتذر عن قوله ملك البربر بأن قال: إنما كتبت ملك البرين، وإنما صحفهاالقارئ إلا أن هذه المحنة لم تدم طويلا إذ ما لبث السلطان المنصور أن عفا عن الإمام ودعاه إلى مراكش بعد توسط جلة من فضلاء إشبلية شهدوا عنده ببراءة الإمام مما نسب إليه، فرضي الأمير وعفا عنه وعن الذين امتُحنوا معه وكان ذلك في أوائل سنة595 هـ، أي: أن المحنة لم تستكمل الثلاث سنوات. ولكن القدر ما لبث أن عجل بالإمام فاخترمته المنية بعد العفو بقليل وكان ذلك في التاسع من صفر سنة 595هـ ودفن بمراكش ثم حمل رفاته بعد إلى مسقطه رأسه بالأندلس. قال ابن حمويه: (لما دخلت البلاد، سألت عن ابن رشد، فقيل: إنه مهجور في بيته من جهة الخليفة يعقوب، لا يدخل إليه أحد؛ لأنه رفعت عنه أقوال ردية، ونسبت إليه العلوم المهجورة، ومات محبوسا بداره بمراكش في أواخر سنة أربع وقال غيره: توفي في صفر، وقيل: ربيع الأول سنة 598 .( )