نقاش المستخدم:Ahmed yacine magri/أرشيف 1

محتويات الصفحة غير مدعومة بلغات أخرى.
أضف موضوعًا
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
أرشيف هذه الصفحة صفحة أرشيف. من فضلك لا تعدلها. لإضافة تعليقات جديدة عدل صفحة النقاش الأصيلة.
أرشيف 1


الفيلسوف المنسي حمودة بن ساعي (1902- 1998)

الفيلسوف المنسي حمودة بن ساعي (1902- 1998) صادق مالك بن نبي وأدهش أندري جيد هو مظلوم أصلا وستظلمه من جديد إذا لم تقرأ سيرته … قال مالك بن نبي: "أدين لحمودة بن ساعي باتجاهي ككاتب متخصص في شؤون العالم الإسلامي…" بن حمودة…الميلاد والنشأة ولد محمود بن ساعي أو حمودة كما يعرف الكثير بهذه التسمية من مواليد 1902 بمدينة باتنة، من عائلة محافظة، حيث استهل دراسته في الكتاتيب قبل أن يلتحق بدروس الشيخ عبد الحميد بن باديس بقسنطينة رفقة أخيه صالح الذي يعد حسب بعض الشهادات أول مهندس زراعي في الجزائر، وتعد هذه القفزة نقطة مهمة في حياة حمودة بن ساعي الذي أبان عن ميول كبيرة نحو الإصلاح ناهيك عن مقدرته الفكرية والمعرفية وهذا باعتراف الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس نفسه ما سمح له بربط علاقات مع رفقاء الدرب والدراسة الذين كان لهم شأن كبير فيما بعد على غرار مالك بن نبي خاصة، كان يحمل هما فكريا مستقبليا حفزه على مواصلة الدراسة في فرنسا. التنقل إلى باريس وكثرة العراقيل حطمت طموحاته تمكن الفقيد حمودة بن ساعي من تحقيق إحداث وثبة أولية بتنقله إلى العاصمة الفرنسية باريس للدراسة هناك في جامعة السوربون بعدما أبان عن فكر موسوعي يجمع بين الثقافة العربية الإسلامية والاطلاع على الثقافة الغربية مع تركيزه على التوجه الإصلاحي المحافظ، وسجل بن ساعي في قسم الفلسفة، حيث استغل تواجده هناك للم شمل الطلبة المغاربة والمساهمة في توعيتهم وتثقيفهم والاستثمار في الفكر الإصلاحي الذي تأثر به خلال فترة دراسته بقسنطينة، وتزامن ذلك مع تواجد رفيق دربه مالك بن نبي، وهو الأمر الذي أثار حفيظة القوات الأمنية الفرنسية التي بدت متحفظة من تحركاته خاصة بعد صعود التيار الوطني بقيادة مصالي الحاج والأمين خالد الجزائري، ورغم طموحات حمودة بن ساعي إلا أنه لم يوفق في الحصول على شهادته وعجز عن مناقشة أطروحته بسبب ضغوط من دوائر استعمارية في مقدمتهم المستشرق لويس ماسينيون الذي قيل أنه أحد اكبر المعرقلين لمسيرة بن ساعي في حياته العلمية ما خلف صدمة نفسية كبيرة كان لها آثار سلبية طيلة ما تبقى من حياته. العودة إلى الوطن بداية المأساة اضطر حمودة بن ساعي للعودة إلى ارض الوطن، واستقر بمسقط رأسه باتنة لتزيد متاعبه في ظل الإهمال ناهيك عن التعذيب التي تعرض لها من قبل الاستعمار ما تسبب في آثار نفسية وأخرى جسدية مستديمة على مستوى الظهر بقيت آثارها إلى غاية وفاته، وخلف التهميش الذي تعرض له حمودة بن ساعي موجة استياء من عديد المفكرين والعلماء على غرار الشيخ البشير الإبراهيمي الذي كان قد زاره بداية الخمسينيات وتفاجأ لوضعيته بعدما تحول إلى مجرد كاتب عمومي مغمور في إحدى المقاهي الشعبية يكتفي بدراهم معدودة لا تسد حتى رمق العيش والأنفة والكرامة بدليل أن هذه المهنة لم تمكنه حتى من تلبية حوائجه البسيطة سواء اليومية أو المعرفية ما جعله يفتقد إلى مسكن يؤويه طيلة الفترة التي عاشها بعد الاستقلال. علماء ومثقفون يشيدون بفكر وأخلاق حمودة بن ساعي كان الفيلسوف حمودة بن ساعي محل إشادة خيرة الشيوخ والعلماء والمثقفين الذين اعترفوا بقيم وأخلاق وإمكاناته بدليل المقولات التي أدلوا بها في عدة مناسبات في مقدمتهم الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي قال عن حمودة بن ساعي ما يلي: "…إنه من خيرة شبابنا الذين درسوا بفرنسا" وأثناء زيارة الشيخ البشير الإبراهيمي لمدينة باتنة في 20 مارس 1950 وقال لحمودة بن ساعي "قلبك مملوء بالوطنية الصادقة، وحالتك تبكيني فاخرج من هذا الوطن…"، وفي 30 أوت 1964 قام بزيارة للبشير الإبراهيمي الذي كان تحت الإقامة الجبرية فقال له وهو يعانقه العناق الأخير "الله يبقي عليك الستر"، كان ذلك قبل وفاته ب 9 أشهر. قال عنه رابح وزناتي صاحب مجلة "صوت الأهالي": "أيها الشاب انك تعالج المواضيع بمنهجية كاملة، وهذا في عام 1928 بعدما قرأ له مقالا مطولا نشر له في إحدى المجلات، وقال أيضا: "أنه يشبه ابن رشد في عطائه". وكتب عنه سيد احمد الميلي عام 1932 في "الجريدة الحرة": "المستقبل يعيد لنا في حمودة بن ساعي الرجل النخبوي الذي يشرف الفكر الإسلامي". في جانفي 1935 في جمعية "الوحدة في سبيل الحق" قال عنه أندري جيد André gide الكاتب الفرنسي الشهير: "زارني شاب مسلم –يقصد حمودة بن ساعي- حيث أقرّ أنه أدهشني بأفكاره". بن نبي ينوّه بصداقة وفضل حمودة بن ساعي عليه رغم تناقض الشهادات التي قيلت بخصوص العلاقة التي جمعت بين حمودة بن ساعي مالك بن نبي إلا أن الكثير من المعطيات توحي أن هذا الأخير لم يتنكر لزميله وأستاذه ورفيق دربه مثلما أشارت إليه مجلة الرواسي الصادرة بباتنة مطلع التسعينيات التي تضمنت عدة شهادات على بعض الشهادات أو الكتب التي ألفها مالك بن نبي، حيث قدم له إهداء في أكتوبر 1946، بمناسبة تأليف الكتاب القيم "الظاهرة القرآنية" كتب فيه: "إلى صديقي وأستاذي حمودة بن ساعي الذي عانى كثيرا من تحالف القوى الاستعمارية الشرسة التي جعلته مهمشا في الساحة مثل آخرين"، وتلقى إهداء مماثلا من الدكتور عبد العزيز الخالدي في سنة 1948 إحدى مؤلفاته وتضمن العبارات التالية: "إلى الذي وجه جيلا من المثقفين الجزائريين وجهة ربانية…عزيزنا محمد بن ساعي" وبالعودة إلى رفيق دربه مالك بن نبي فنجد أن كتابه المعنون ب "مذكرات شاهد للقرن، طبعة دار الفكر فقد تضمنت العلاقة الوطيدة بين مالك بن نبي وحمودة بن ساعي، ففي ص 35 نقف على إشادة واضحة لهذا الأخير "أدين لحمودة بن ساعي باتجاهي ككاتب متخصص في شؤون العالم الإسلامي…"، وفي ص 236 يقول مالك بن نبي "زاد هذا النشاط في تفاقم الأمر بالنسبة لدراستي، ولكنه لم يعطل شيئا من مناقشاتي مع حمودة بن ساعي، كان يزورني في بيتي كل جمعة في المساء، يصطحبه أحيانا أخوه صالح الذي التحق بدوره بباريس، فنتناول العشاء سويا…ولم يكن موضوع المناقشة محددا من قبل، وغالبا ما تحدده الورقة الصغيرة التي يخرجها حمودة بن ساعي من جيبه، وقد تكون أحيانا ملاحظة له أثناء مطالعته في الأسبوع أو مجرد مقال مقتطع من جريدة…كانت المناقشة متنوعة، علمية أحيانا وسياسة أخرى ودينية واجتماعية غالبا…". وأشار في ص 304 إلى طموحهما المشترك في تولي جمعية العلماء المسلمين واختلافهما في وجهة النظر مع مثقفين آخرين "وبما لم يكن توفي من هذه الناحية نزيها كل النزاهة، إذا كان لي غرض يشاركني فيه حمودة بن ساعي، هو أن نكون نحن الاثنان الوارثين لجمعية العلماء المسلمين بعد دراستنا، لأننا نظن في أنفسنا الجدارة لخوض المعركة السياسة مع المحافظة على الخط الإصلاحي ونتائجه في الوطن، الأمر الذي جعلنا نختلف فيه تماما مع المثقفين الآخرين"، وفي ص 324 يقول "…ويستولي على أحيانا الحنين إلى أصدقائي خاصة حمودة بن ساعي فأسافر إلى باريس"، وفي ص 325: "…وكنت أتجاذب الحديث مع حمودة بن ساعي عن الوضع في الجزائر وعن كتاب ماسينيون عن (الحلاج) الذي كان موضوع الأخذ والرد في تلك الفترة" وغيرها من العبارات التي تضمنتها مؤلفات أخرى. حمودة بن ساعي تناسوه في حياته ونسوه في مماته عام 1998.

ذكريات وشهادات محمد حمودة بن ساعي :الشيخ عبدالحميد بن باديس/أعد النصوص وترجمها : ن. خندودي كتب الكثير عن الشيخ عبدالحميد بن باديس، حول شخصه وعلمه ونشاطه، باللغة العربية والفرنسية. ولا ادعي مطلقا أني سأجدد في الموضوع الذي كان محل العديد من الدراسات، والذي كرس له وبشكل خاص البروفيسور عمار طالبي كتابا مميزا في أربعة اجزاء. غير أني أريد ببساطة أن أقدم شهادة خاصة، وأنا استذكر التقدير الذي كان الشيخ يكنه لي. وهي شهادة محملة بالإعجاب والاحترام والوفاء للمثل المقدسة التي خدمناها سويا. أثناء بدايات شبابي، وخلال دراستي في المدرسة (التي التحقت بها بعد نجاحي في مسايقة الولوج)، كنت أرافق أحيانا شقيق جدي الذي كلفه والدي برعايتي إلى مسجد سيدي لخظر. كنا نحضر بعد صلاة العشاء، درس التربية الإسلامية الذي كان الشيخ بن باديس يلقيه أمام العامة من الناس. كنا نستمع باهتمام وفي سكون وخشوع. هكذا بدأت أعرف الشيخ بن باديس الذي كان شقيق جدي يحدثني عنه بخير وثناء. كان رجلا ذا قامة صغيرة وبنية هزيلة ولكن بوجه يشع إيمانا وحزما. من دروس الشيخ، حفظت في ذاكرتي تعليقا على الأربعين النووية من أحاديث سيدنا محمد (ص) وكانت عبارة عن أحكام وقواعد سلوك من حكمة سامية، يسهل حفظها والتي يتعين على المؤمنين الصادقين أن يتأملوها بتمعن. حفظت بعضا منها عن ظهر قلب من مجموعة الإمام النووي المشهور. لقد أحب إلي الامام بن باديس هذه الأحاديث. في إحدى الأمسيات، وبقرب ساحة لاغاليت، التقيت بشيخي الموقر ابن العابد وهو في طريقه إلى الزاوية “السنوسية” لسيدي فتح الله، فلامني عن غيابي عن دروسه، بعد أن أصبحت مواظبا لدراسة التوحيد (من رسالة التوحيد الإسلامي). غير أني كنت كثيرا معجبا بدروس الشيخ بن باديس، فأجبته أني أفضل حضور الدرس الجديد بالنسبة لي، فالأحاديث الأربعين كانت تؤثر في بصورة خاصة لأنها كانت تخاطب إحساسي وكانت تلخص لي في إيجازها ووضوحها الأخلاق الإسلامية. كان الشيخ ابن العابد متفهما ومتسامحا، فابتسم لي وقال : بما أنك تفضل الحديث، فلك ذلك. بعدها بفترة، في عام 1925، أراد الشيخ بن باديس توسيع نشاطه لتنوير الجماهير الشعبية الغارقة في الجهل والظلام، فأنشأ جريدة “المنتقد”، ثم استتبعها بجريدة “الشهاب”. كنت متعطشا للمعرفة ومنجذبا لكل جديد فكنت أطالعهما بشغف. كان والدي يمنحني المال، فأذهب أحيانا إلى قسنطينة لرؤية الشيخ بمكتبه في شارع أليكسيس لامبير لأطرح عليه أسئلة كانت تراودني. كان يجيبني بلطفه المعهود، ويعطيني شروحات ضافية. بالنسبة لي كانت دروسا حقيقية وكنت استحسن يسرها ودقتها ووضوحها. ويحصل أحيانا أن يقول لي الشيخ وقد كان شديد التدقيق : “ارجع غدا حتى أراجع كتبي”. في أحد الأيام حررت ردا طويلا على مقال كتبه محمد زركين، وكان طبيب أسنان ومستشارا بلديا بقسنطينة، حيث انتقدت بشدة “سياسة المشاركة” و”سياسة الاندماج” (وهي السياسة التي ستسمح بعلاج مشاكلنا وأمراضنا بحسب العديد من مثقفينا). قدمتها للشيخ بن باديس الذي اطلع عليها بتمعن ثم قال لكاتبه المرحوم أحمد بوشمال وهو يثني علي : “لم أكن أدري أن ضمن شبابنا عقولا قادرة على التفكير بمثل ما يفكر فيه هذا الشاب”. غير أن الشيخ، وهو رجل حذرا ويمعن النظر والتدقيق في الأمور قبل اتخاذ قرار بشأنها، قدر أن الوقت لم يكن مناسبا لنشر مثل هذه الدراسة. ثناؤه علي – وقد كانت الدراسة أول كتاباتي باللغة العربية – أثرت في بعمق. ولم أنساه أبدا. وبعدها أيضا، في افريل 1929، دعيت للعمل كمحرر ومترجم في جريدة “النجاح” الصادرة باللغة العربية بقسنطينة والتي كان يدريها رجلا متميزا هو الشيح عبدالحفيظ الهاشمي وقد كان الشيخ ابن العابد يكتب فيها. حررت بها تقريرا مطولا لمحاضرة ألقاها الكاتب بيير باراف Pierre Paraf حول “اليهودية في الأدب الفرنسي”. بقاعة الكازينو وأمام جمهور من رجال متألقين ونساء أنيقات، ألقى بيير باراف، وهو يهودي فرنسي يتحدث بطلاقة، محاضرة جيدة. استمعت له وانصت، وقدمت خلاصة أمينة ثم قمت، وهذا أمر غير منتظر في صحافة اللغة العربية وقتها، بتقديم العديد من الملاحظات التي أبانت عن تبحر أكيد وعن إدراك أدبي محكم. بالنسبة لقراء النجاح، عد الأمر إبداعا. المدير سي عبدالحفيظ كان مغتبطا جدا. الناس هنأتني لأسلوبي، فكنت أقول لهم : “هنؤوا أستاذي الشيخ بن العابد، الحاضر هنا. فهو الذي علمني” . تأثر الشيخ الموقر. من جهته، الشيخ بن باديس، الذي كان يسكن بالجوار، التقاني شخصيا وهنأني بحرارة. كان محبا للثقافة. بعدها بوقت، نددت السياسة الانتخابية المبنية على الكدب والسمسرة والتدليس، وحررت مقالا مطولا بعنوان مثير : “سراب السياسة والدعوة إلى هداية القرآن”. كان للمقال أثر وصدى. فتلقيت التهاني من منطقة وهران. بمدينة باتنة، اطلع عليه قاضي المحكمة الشيخ كاتب فأثنى عليى. أستاذي ابن العابد كان فخورا بي. الشيخ بن باديس جاء للقائي بالمناسبة. كان وجهه يشع ضياء. لقد ترجمت وبصورة أخاذة أفكاره العميقة حول الموضوع. لم أنس أبدا ازدهاء الشيخ المشع وافتخاره الجلي. كان يحب القرآن الكريم الذي فسره خلال ربع قرن بطريقة فذة. كان الشيخ يتبع فيه أستاذه الشيخ رشيد رضا الذي تتلمذ بدوره على يد الشيخ محمد عبدو. في أحد الأيام، جاءني الشيخ بـ”القرآن المفسر” لمحمد فريد وجدي، والظاهر أنه أراد أن يشجعني، فأعارنيه. احتفظت به حوالي ثلاثة أشهر ودونت العديد من الملاحظات والمعلومات. وفي يوم آخر، وبينما كنت أتحدث مع الشيخ بمكتبه (لأني كنت غالبا ما أزوره)، حدثته عن بيتهوفن، الملحن الموسيقي العبقري الألماني، فقل لي بأنه يعرفه. فحدثته كذلك عن سقراط. فقل لي إنه “أستاذ الحكماء”. لا يمكن أن نسدي تحية أفضل لأستاذ أرسطو وأفلاطون. كانت للشيخ، وهو البادي بمظهر المنشغل بالدراسات الدينية، نظرات واسعة وجامعة. كان من طينة كبار الإنسانيين الغربيين، الذين كانوا يترفعون عن أنواع العصبيات، ويسعون إلى خير الإنسانية برمتها. استدعاني والدي إلى مدينة باتنة، وتقرر ذهابي إلى فرنسا لإتمام دراستي هناك. وإني لأذكر دوما النصيحة الحكيمة للشيخ للطلبة الشباب : “ابذلوا الجهود لجمع العلوم والمعارف، ولا تهتموا كثيرا بالدبلومات والايجازات فهي لا تعدو أن تكون مجرد “شهادات” (témoignages) يمكن أن تحرموا منها”. بباريس، دأب الشيخ، وعلى مدار سنتين، على موافاتي بانتظام مجلة “الشهاب” إضافة إلى المطبوعات الدورية التي تصدرها جمعية العلماء. بعد فترة من خضوعي لعملية جراحية بمستشفى لاشاريتي في ماي 1937، أرسل لي الشيخ بن باديس رسالة بخط يده، دعاني فيها للانضمام إلى جمعية العلماء، فأجبته أني لا استطيع أن أنخرط فيها، غير أني أبقى وفيا بكل قوة للمثل التي من أجلها أنشئت. وكانت لي أسباب في موقفي هذا. درس والدي، خلال فترة شبابه، باللغة العربية بمساعدة الزوايا في منطقة الأوراس (حيث كان الناس يتعلمون القرآن الكريم) وقسنطينة وتبسة، وهي الزوايا التي احتفظ لها بالعرفان والجميل. يجب أن أراعي مشاعر والدي من هذه الناحية. جمعية العلماء المسلمين التي قبلت في بداياتها ودون تحفظ أعضاء من الزوايا، غيرت فيما بعد من موقفها هذا تجاههم. ومن هنا، حدث شرخ كبير وحصلت انقسامات بين المؤمنين الذين من المفروض أن يتحدوا أخويا. لقد نسينا للأسف النصيحة البالغة للشيح محمد رضا : “فلنتحد فيما نتفق فيه وليعذر بعضنا بعضا فيما نختلف فيه”. في عام 1936، وبعد فوز الجبهة الشعبية في الانتخابات بفرنسا – وهي الجبهة التي ستخيب بمرارة آمال المسلمين الجزائريين – قدم وفد من المنتخبين الممثلين لـ”المؤتمر الإسلامي الجزائري” وبمشاركة العلماء، وقدم جملة من المطالب التي تستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار. في النزل الكبير (Grand Hôtel) ، قرب ساحة الأوبيرا، رأيت الشيخ بن باديس برفقة الشيخ العقبي والشيخ الإبراهيمي. التقيته مرة أخرى بمقهى “الهقار”، وهو مقهى بطراز شرقي كان الطلبة الشباب يرتادونه لوجوده في قلب الحي اللاتيني. بالمقهى قدمت له زملاء من مصر كانوا يحضرون لأطروحات الدكتوراه في القانون. فرح بلقاء مثقفين شباب عرب (وكان من بينهم مصطفى كمال، الذي سيصبح فيما بعد سفيرا للجمهورية العربة المتحدة بواشنطون) وقد حبسنا لمدة ساعة تقريبا بسحر بيانه، فرحت بسماعه وكان زملائي المصريين يستمعون بخشوع، ولم يكونوا ينتظرون أن يلتقوا شيخا من هذا الطراز. لم أنس كذلك أن الشيخ بن باديس قد انتهى إلى علمه أني اشتغلت عاملا بسيطا بمصنع هيسبانو-سويزا، في صيف 1935، فدمعت عيناه. وقال للطالب الذي حدثه عني : لماذا لم يكاتبني، فلدينا صندوقا لمساعدة الطلبة الفقراء”. لم ينل الوفد الجزائري شيئا من حكومة الجبهة الشعبية التي كان يقودها ليون بلوم، فعادت بخفي حنين إلى الجزائر. فهم الشيخ وهو مغتاظ أن اشتراكية الجبهة الشعبية لم تكن إلا سرابا خادعا وأن الاستعمار الفرنسي أصبح شرسا أكثر من أي وقت مضى، وأصبح أصما لنداءات الانسانية والعقل، فكتب مقالا رائعا بعنوان مثير : “فلنتكل على الله ولنعول على أنفسنا”. لم أره حيا بعدها أبدا. خمسة عشر يوما قبل وفاته، ذكرني بهذه العبارات (التي رواها لي مساعده الوفي الشيخ عبدالحفيظ الجنان) : “إنه أفضل شباننا الذين درسوا في فرنسا”. بعد وفاته، يوم 16 افريل 1940، ذهبت لقسنطينة لحضور جنازته. وقفت بخشوع أمام جثمانه ونظرت مطولا إلى وجهه لقراءة آخر افكاره وتأملاته. وجه هزيلا، بحاجبين مستقيمين، لمحت تقاسيم عزم يتحدى المحن. كان آخر درس تلقيناه منه : “كافحوا دوما واثبتوا ولا تستسلموا أمام قوى الشر والكذب”. باتنة يوم 20 أوت 1984 الموافق لــ 23 ذو القعدة 1404

حمودة بن ساعي... أستاذ مالك بن نبي الذي عاش مهمّشا ومات في العراء °°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°° كان يقول "لم استطع أن أكون إسما أدبيا وفكريا لأن الاستعمار أراد لي حياة البؤس" كسب احترام أندري جيد وانتقد ماسينيون وطلب منه الإبراهيمي مغادرة الجزائر °°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°° عرف المفكر الجزائري حمودة بن ساعي مصيرا تعيسا، فرغم أنه درس في جامعة السوربون في العشرينيات من القرن الماضي، وكان صديقا وأستاذا للمفكر مالك بن نبي باعتراف هذا الأخير في مذكراته وبعض مؤلفاته الأخرى، إلا أن الأوضاع المتأزمة التي مر بها انتهت به إلى جحيم التهميش ودائرة النسيان. وتوفي حمودة بن ساعي عام 1998 عن عمر يناهز 96 سنة (من مواليد 1902) دون منزل يؤويه رغم أنه كان مثقفا مزدوج اللغة، وفضل أن يوظف اللغة الفرنسية كغنيمة حرب، كما يملك معرفة عميقة في الثقافتين الإسلامية والغربية، وحاضر في فرنسا ونادي الترقي بالجزائر العاصمة، وهو ما جعل العلامة عبد الحميد بن باديس سفه على انه من أفضل شباب وتلامذة جمعية العلماء المسلمين الذين درسوا في فرنسا. ويجمع العديد من المهتمين بفكر بن ساعي أنه كان يؤمن بالفعل الثقافي، وبفضيلة الحوار، وكان يعطي أهمية قصوى لدور النخب، لكنه مات في عزلة بعيدا عن الأضواء، حيث ترك عددا من المقالات والمؤلفات، إضافة إلى مذكراته التي لم تنشر، وهو ما جعله أحد المفكرين الذين لم تستفد منهم الجزائر رغم أنه لفت الانتباه مطلع القرن الماضي طالبا ومفكرا، فقد شد الرحال إلى فرنسا بعد أن أنهى دراسته في قسنطينة، وحصل على شهادة في الفلسفة من جامعة السوربون، وهناك تعرف على عدة مفكرين، وتوطدت أواصر الصداقة مع أندري جيد. وكان بمقدور بن ساعي الذهاب بعيدا في مساره الفكري والفلسفي، لكنه ذهب ضحية التهميش حتى من بعض مقربيه، مثلما تشير العديد من الكتابات التي أجمعت على زهده وسعة آفاقه التي لم تجد من يبلورها، أو يخرجه على الأقل من دائرة التهميش والحقرة والنسيان، وعانى حمودة بن ساعي قد عانى من ويلات التعذيب الجسدي على يد الاستعمار الفرنسي، ما تسبب له في عاهة على مستوى ظهره لتزيد متاعبه أكثر عقب الاستقلال، حين عاش معزولا دون منزل يؤويه مكتفيا بمهنة كاتب عمومي بإحدى المقاهي الشعبية لضمان مصروف الجيب، في الوقت الذي تحركت في السنوات الأخيرة بعض الأقلام التي حاولت تسليط الضوء على بعض أعماله غير المنشورة، وفي مقدمة ذلك الأستاذ نورالدين خندودي الذي نفض عليه الغبار في كتاب جمع العديد من أفكار بن ساعي وشهادات من عرفه عن قرب، في الوقت الذي تجاهله الحقل الثقافي بشكل غير مفهوم، رغم أن الكثير يعترف بكفاءته العلمية، بدليل أنه ناقش مستشرقين فرنسيين أمثال ماسينيون، وكان صديقا حميما ل "أندري جيد"، وكان من أقرب المقربين لمالك بن نبي الذي يصفه هذا الأخير ب "أستاذي وصديقي حمودة بن ساعي"، وأهدى له خصيصا كتابه المعنون ب "الظاهرة القرآنية". بن نبي أهدى له "الظاهرة القرآنية" ويصفه ب"صديقي وأستاذي بن ساعي" °°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°° وتحدث مالك بن نبي مطولا في مذكراته عن حمودة بن ساعي مطولا، بسبب الصداقة التي تربط الرجلين فقط، إضافة إلى ممارسات الأمن الفرنسي الذي كان يقتفي آثار المثقفين الجزائريين المناهضين للاستعمار، وهو ما ألحق الكثير من الأذى للرجلين اللذين ناهضا أفكار ماسينيون الاستشراقية في جامعة السوربون، ورغم هذا كان ماسينيون يكن الكثير من الاحترام لبن ساعي الذي كتب له رسالة سنة 1946 ينتقد فيها أفكاره، مشيرا أن ماسينيون أوهمه بإمكانية قيام صداقة بين فرنسا والجزائر، وهو الأمر الذي آلمه كثيرا، وجاءت رسالة بن ساعي كرد فعل على الجرائم التي ارتكبتها السلطات الاستعمارية ضد الجزائريين يوم 8 ماي 1945. وحسب الأستاذ نورالدين خندودي في تصريحات سابقة، فإن فكر حمودة بن ساعي يقع بين أطروحات الشيخ بن باديس ومصالي الحاج، فهو وطني من طراز خاص، وكان يحمل أفكارا مستنيرة حول النهضة في الجزائر، فقد تأثر حسبه بأفكار الأمير خالد، ثم بأفكار نجم شمال إفريقيا. وتشير الكثير من الكتابات أن مالك بن نبي لم يتنكر لزميله وأستاذه ورفيق دربه حمودة بن ساعي، مثلما أشارت إليه مجلة الرواسي الصادرة بباتنة مطلع السبعينيات التي تضمنت عدة شهادات على بعض الشهادات أو الكتب التي ألفها مالك بن نبي، حيث قدم له إهداء في أكتوبر 1946، بمناسبة تأليف الكتاب القيم "الظاهرة القرآنية" كتب فيه: "إلى صديقي وأستاذي حمودة بن ساعي الذي عانى كثيرا من تحالف القوى الاستعمارية الشرسة التي جعلته مهمشا في الساحة مثل آخرين"، وتلقى إهداء مماثلا من الدكتور عبد العزيز الخالدي في سنة 1848 إحدى مؤلفاته وتضمن العبارات التالية: "إلى الذي وجه جيلا من المثقفين الجزائريين وجهة ربانية...عزيزنا محمد بن ساعي" وبالعودة إلى رفيق دربه مالك بن نبي، فنجد أن كتابه المعنون ب "مذكرات شاهد للقرن، طبعة دار الفكر فقد تضمنت العلاقة الوطيدة بين مالك بن نبي وحمودة بن ساعي، ففي ص 35 نقف على إشادة واضحة لهذا الأخير "أدين لحمودة بن ساعي باتجاهي ككاتب متخصص في شؤون العالم الإسلامي..."، وفي ص 236 يقول مالك بن نبي "زاد هذا النشاط في تفاقم الأمر بالنسبة لدراستي، ولكنه لم يعطل شيئا من مناقشاتي مع حمودة بن ساعي، كان يزورني في بيتي كل جمعة في المساء، يصطحبه أحيانا أخوه صالح الذي التحق بدوره بباريس، فنتناول العشاء سويا...ولم يكن موضوع المناقشة محددا من قبل، وغالبا ما تحدده الورقة الصغيرة التي يخرجها حمودة بن ساعي من جيبه، وقد تكون أحيانا ملاحظة له أثناء مطالعته في الأسبوع أو مجرد مقال مقتطع من جريدة...كانت المناقشة متنوعة، علمية أحيانا وسياسة أخرى ودينية واجتماعية غالبا...". وأشار في ص 304 إلى طموحهما المشترك في تولي جمعية العلماء المسلمين واختلافهما في وجهة النظر مع مثقفين آخرين "وبما لم يكن توفي من هذه الناحية نزيها كل النزاهة، إذا كان لي غرض يشاركني فيه حمودة بن ساعي، هو أن نكون نحن الاثنان الوارثين لجمعية العلماء المسلمين بعد دراستنا، لأننا نظن في أنفسنا الجدارة لخوض المعركة السياسة مع المحافظة على الخط الإصلاحي ونتائجه في الوطن، الأمر الذي جعنا نختلف فيه تماما مع المثقفين الآخرين"، وفي ص 324 يقول "...ويستولي على أحيانا الحنين إلى أصدقائي خاصة حمودة بن ساعي فأسافر إلى باريس"، وفي ص 325: "...وكنت أتجاذب الحديث مع حمودة بن ساعي عن الوضع في الجزائر وعن كتاب ماسينيون عن (الحلاج) الذي كان موضوع الأخذ والرد في تلك الفترة" وغيرها من العبارات التي تضمنتها مؤلفات أخرى. بن باديس وصفه ب"خيرة شبابنا الذين درسوا بفرنسا" والإبراهيمي نصحه بالمغادرة °°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°° وكان الفيلسوف حمودة بن ساعي محل إشادة خيرة الشيوخ والعلماء والمثقفين الذين اعترفوا بقيم وأخلاق وإمكاناته بدليل المقولات التي أدلوا بها في عدة مناسبات في مقدمتهم الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي قال عن حمودة بن ساعي ما يلي: "...إنه من خيرة شبابنا الذين درسوا بفرنسا". وأثناء زيارة الشيخ البشير الإبراهيمي لمدينة باتنة في 20 مارس 1950 وقال لحمودة بن ساعي "قلبك مملوء بالوطنية الصادقة، وحالتك تبكيني فاخرج من هذا الوطن الموبوء..."، وفي 30 أوت 1964 قام بزيارة للبشير الإبراهيمي الذي كان تحت الإقامة الجبرية فقال له وهو يعانقه العناق الأخير "الله يبقي عليك الستر"، كان ذلك قبل وفاته ب 9 أشهر، وقال عنه رابح وزناتي صاحب مجلة "صوت الأهالي" ما يلي: "أيها الشاب إنك تعالج المواضيع بمنهجية كاملة، وهذا في عام 1928 بعدما قرأ له مقالا مطولا نشر له في إحدى المجلات، وقال أيضا: "أنه يشبه ابن رشد في عطائه". وكتب عنه سيد احمد الميلي عام 1932 في "الجريدة الحرة": "المستقبل يعيد لنا في حمودة لن ساعي الرجل النخبوي الذي يشرف الفكر الإسلامي". وفي جانفي 1935 في جمعية "الوحدة في سبيل الحق" قال عنه الكاتب الفرنسي الشهير أندري جيد: "زارني شاب مسلم –يقصد حمودة بن ساعي- حيث أقرّ أنه أدهشني بأفكاره". بن ساعي.. تنشئة تعيسة وعراقيل بالجملة °°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°° يعد محمود بن ساعي أو حمودة كما يعرفه الكثير بهذه التسمية من مواليد 1902 بمدينة باتنة، من عائلة محافظة، حيث استهل دراسته في الكتاتيب قبل أن يلتحق بدروس الشيح عبد الحميد بن باديس بقسنطينة رفقة أخيه صالح الذي يعد حسب بعض الشهادات أول مهندس زراعي في الجزائر، وتعد هذه القفزة نقطة مهمة في حياة حمودة بن ساعي الذي أبان عن ميول كبيرة نحو الإصلاح ناهيك عن مقدرته الفكرية والمعرفية وهذا باعتراف الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس نفسه ما سمح له بربط علاقات مع رفقاء الدرب والدراسة الذين كان لهم شأن كبير فيما بعد على غرار مالك بن نبي خاصة، كان يحمل هما فكريا مستقبليا حفزه على مواصلة الدراسة في فرنسا. وأحدث الفقيد حمودة بن ساعي وثبة أولية بتنقله إلى العاصمة الفرنسية باريس للدراسة في جامعة السوربون بعدما أبان عن فكر موسوعي يجمع بين الثقافة العربية الإسلامية والاطلاع بحذر على الثقافة الغربية، مع تركيزه على التوجه الإصلاحي المحافظ، وسجل بن ساعي في قسم الفلسفة، حيث استغل تواجده هناك للم شمل الطلبة المغاربة والمساهمة في توعيتهم وتثقيفهم والاستثمار في الفكر الإصلاحي الذي تأثر به خلال فترة دراسته بقسنطينة، وتزامن ذلك مع تواجد رفيق دربه مالك بن نبي، وهو الأمر الذي أثار حفيظة القوات الأمنية الفرنسية التي بدت متحفظة من تحركاته خاصة بعد صعود التيار الوطني بقيادة مصالي الحاج والأمين خالد الجزائري، ورغم طموحات حمودة بن ساعي إلا أنه لم يوفق في الحصول على شهادته وعجز عن مناقشة أطروحته بسبب ضغوط من دوائر استعمارية في مقدمتهم المستشرق لويس ماسينيون الذي قيل أنه أحد اكبر المعرقلين لمسيرة بن ساعي في حياته العلمية ما خلف صدمة نفسية كبيرة كان لها آثار سلبية طيلة ما تبقى من حياته. دائرة التهميش أزّمت وضعيته بعد عودته إلى أرض الوطن °°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°° بعد الاستقلال عاد حمودة بن ساعي إلى الجزائر، واستقر بمسقط رأسه باتنة، لتزيد متاعبه في ظل الإهمال ناهيك عن موجة التعذيب التي تعرض لها من قبل الاستعمار ما تسبب في آثار نفسية وأخرى جسدية مستديمة على مستوى الظهر بقيت آثارها إلى غاية وفاته، وبسبب المصير التعيس والمأساوي الذي عرفه المثقفون، وركن للصمت إلى غاية سنة 1981، حيث ألف كتابا حول أستاذه الشيخ عبد الحميد بن باديس. وخلف التهميش الذي تعرض له حمودة بن ساعي موجة استياء من عديد المفكرين والعلماء، على غرار الشيخ البشير الإبراهيمي الذي كان قد زاره بداية الخمسينيات وتفاجأ لوضعيته بعدما تحول إلى مجرد كاتب عمومي مغمور في إحدى المقاهي الشعبية يكتفي بدراهم معدودة لا تسد حتى رمق العيش والأنفة والكرامة، بدليل أن هذه المهنة لم تمكنه حتى من تلبية حوائجه البسيطة سواء اليومية أو المعرفية، ما جعله يفتقد إلى مسكن يؤويه طيلة الفترة التي عاشها بعد الاستقلال. ويعترف بعض الدارسين لفكر حمودة بن ساعي أن له أسلوب متميز، فهو يجيد اللغة الفرنسية التي وظفها كغنيمة، كما تأثر بالتيار الإصلاحي الذي كان يقوده الشيخ عبد الحميد بن باديس، ويجمع الكثير من المتتبعين والمهتمين على تميز أسلوبه في الكتابة وترجمة أفكاره ومتاعب شعبه وقال في هذا الشأن "لم استطع أن أكون اسما أدبيا لأن الاستعمار منعني من ذلك وأراد لي حياة البؤس"، ورغم التهميش الذي حرم باتنة والجزائر من فيلسوف كبير على خطى رفيق دربه مالك بن نبي إلا أنه لم يبق كتوف الأيدي وكان يطمح في نشر عديد الكتب التي يكون قد ألفها على غرار "في خدمة الجزائر"، "في خدمة الإسلام" إضافة إلى كتاب بعنوان "كتابات حول ذكريات الشباب" وآخر هو "مذكرات رجل عانى الكثير". بن ساعي مات قبل أن يولد °°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°° وتشبه حياة محمد حمودة بن ساعي، حياة عدد من المثقفين الجزائريين الذين عانوا الإقصاء والتهميش، فهو مثقف غير معروف لدى عامة الناس، بل حتى في أوساط المثقفين، رغم أن مالك بن نبي اعتبره في مذكراته التي صدرت بعنوان "العفن" بمثابة أستاذه وأهداه كتابه الشهير "الظاهرة القرآنية". وقد تنبأ له الشيخ الإبراهيمي بهذا المصير التعيس، فقال له سنة 1950 حين التقى به في باتنة "إنك عالم، لكن ينقصك فن التصرف مثل الشيطان" فنصحه بمغادرة الجزائر. والواضح أن حمودة بن ساعي ولد في ظروف لم تخلف له سوى المتاعب والمأساة، فرغم احتكاكه بخيرة علماء الأمة، على غرار عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي ومالك بن نبي، وتعرفه على فلاسفة وأسماء ثقافية وسياسية ثقيلة في الجزائر وخارج الوطن، إلا أن حمودة بن ساعي عاش مغمورا ومعزولا في بلد تنكر كثيرا لعلمائه وأعلامه، بدليل نهايته المأساوية، فقد مات دون أن يحقق أمنيته في الحصول على مسكن اجتماعي، ولا على منصب عمل يحفظ له كرامته ويعزز مكانته الفكرية والاجتماعية، لتختفي مجمل مخطوطاته وكتاباته التي لم تعرف طريقها إلى النشر رغم الوعود المقدمة له من بعض الأطراف، وهو أمر طبيعي لرجل تناسوه في حياته ونسوه تماما منذ وفاته عام 1998، وهو نفس المصير الذي عرفه شقيقه صالح بن ساعي الذي يعد أول مهندس زراعي في الجزائر، وأول من تنبأ بجفاف دول الساحل، لكنه مات في صمت بمدينة القنيطرة المغربية. صالح سعودي** الشروق اليومي