انتقل إلى المحتوى

مستخدم:صلاح الدين عيسى/ملعب

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

۞ " زموني سورك " اللسان الأحمر .....

    • وكيف للنساء أن يُحْبِبْنَني وقد كنتُ في الحق سليطَ اللسان منذ غابر الأزمان ، نعم كنتُ كذلكَ ومازلت لكني حقاً لا أدري إن كُنَّ مَنْ التقيتُ بهنَّ في مشوار العمر على حقٍّ في النفورِ مني أو أنني ذاتي ( زموني سورك ) كان السبب ؟؟...

■ لتقريب الفكرةِ إلى أذهانكم ، يتطلب الأمرُ مني سرداً لواحدةٍ من الأحداث التي مرَّت بي :

    • كانت الساحة وسط قريتنا تشهدُ تزاحماً لأهل القرية شيباً ووِلداناً ناهيكَ عن جمهرةٍ كبيرةٍ من القرى المجاورة ممن وجهت لهم الدعوة لحضور عُرسٍ تقيمه عائلة ( أوسبي حاس كلكي ) لابنهم البكر ،وليس غريباً أن يجتمع هذا الحشد الكبير فالعائلة ثرية تربطها صلاتٌ عديدةٌ بمدير الناحية ومدير المنطقة وكثير ممن يمتلكون إصدار القرار في مدينة حلب .... الأمر يختلف بالنسبة للعوائل الفقيرة ، فإن أراد الفقير تزويج ابنٍ له ، فإن عائدات الـ ( خلات ) لا تتعدى بضعة آلاف من الليرات ، بالطبع تعرفون ( مراد كور ) إنه رجلٌ أعمى لم يترك قرية في ( جياي كورمينج ) إلا وزارها ... كان يرافقه في رحلاتها ابنه البكر ، يمسك بيده أثناء التجوال ، صبيٌّ صغيرٌ كان يجلسُ بجانب أبيه من غير أن ينبسَ ببنت شفة .... كان ( مراد كور ) رجلاً موفور الصحة سريع البديهة ، كان أهلاً للترحاب من جميع أهل المنطقة لخفة دمه وتأليفه لكثير من الأغاني التي تحمل صبغةَ الفُكاهة ، وقبل البدء بالغناء كان يطلب من أصحاب البيت طنجرةً فارغةً يقلبها وينقر على مؤخرتها بينما يصدحُ بصوته الجميل وأهل البيت يقهقهون ضاحكين ، كان للرجل زوجةٌ تسمى ( قل فير ) لبوةٌ شرسةٌ يطالُ أذية لسانها جميعَ مَن لا ترتاح لهم ، كانت طويلة القامة نحيلةً إلى حدٍّ ما ، حينما تمشي في أزقة القرية تخالها قائداً عسكرياً يشمخُ برأسه عَنان السماء ، على رأسها منديل يستر الشعر ومنديل آخر تطويه فتلفه حول جبهتها أشبه بالعقال الذي يستخدمه الرجال في المناطق العربية ، فستانٌ طويلٌ ، تحته يظهر سروالٌ يصل حتى القدمين ، نعم أذكر مثل هذه السراويل فجدتي ميمو أيضاً كان لها مثل هكذا سروال بل و جميع عجائز قريتنا يرين فيهِ الستر وراحة البدن ولكن ، ترى لماذا كانت الخياطات يَحِكنَ قطعاً جميلة من الـ ( تنتنه ) في نهاية السروال عند القدمين ؟؟.. ربما للفتِ الأنظار أو لإضفاء الأبهة على مَنْ تلبسه أو .... ... كان ( مراد ) يخاف سلاطة لسانها فيوافقها على جميع ما تحدثه به أو تطلبه منه ، البائس يلزم الصمت في البيت دائماً ويشكرُ ربه مراراً على نعمة الحرية حينما يغادر القرية إلى وجهاتٍ عشوائية ينشد منها خلاصاً من عبودية ( قلفير ) الشريرة ، أحياناً ، كانت ( قلفير ) تتمتع بروح الدعابة فحينما تلتقي في ( بازار عفرين ) بامرأة غريبة تستطلعها عن أصلها وفصلها ، كانت ( قلفير ) تجيبها :

ــ اسمي ( قلفير ) .. أنا من قرية ( كوخري ) ... بيتنا بمحاذاة مدخل القرية ، زوجي أعمى ، في باحة منزلي شجرة توتٍ كبيرة ولكن ... أبداً لن أعرِّفكِ على نفسي أيتها المرأة الغريبة ( تو بمري آز خو هاوولنودم ) ...

 ... تمضي السنون وابنهما يطأ عتبة الخامسة عشرة من عمره ، ولأنه وحيدٌ فقد أرادا  تزويجه ، كان للصبي عرسٌ بائسْ ،  قليل من الناس لبى الدعوة ، وأما مَن حضر فإنه كان بخيلاً في دفع  ( الخلات ) ، ولأنَّ ( قلفير ) لا تسكتُ على ضيم فإنها و في اليوم التالي من زواج ابنها ، صعدت إلى سطح بيتها الترابي تصيح : 

ــ كوندو ... كوندو .. آز دقز...كي خدونيوانم .... ظلت ( قلفير ) ساعة ويزيد تكيل الشتائم لأهل القرية والأغنياء منهم على وجه الخصوص ، لم تكن تهاب لومةَ لائم ، كانت تنفث حِمَمَ غضبها على الجميع ، مَنْ جاء إلى عرس ابنها ووضع بضع ليرات ومَنْ منعهُ مُقامه من الحضور ... الجميع نال من الشتائم نصيبه .. ( مراد ) يناديها من باحةِ البيت : ــ لي قزي عيبا .. دوكافا .. انزلي يا امرأة ، عيبٌ ما تفعلينه .. ها أنا أيها القارئ قد أظهرتُ لك جانباً من تركيبة المجتمع القروي ، فَهَلُمَّ الآن إلى ساحة القرية ...

**  كانَ ( جميل عبدو عاشكه ) يتوسطُ حلقة الدبكة بينما زوجته ( خديجة بنت عيسو ) في حلقة الدبكة تراقبه عن كثب وبين الحين والآخر تضعُ كفَّ إحدى يديها أمام فمها ، تزغرد طويلاً ابتهاجاً بسندها وتاج رأسها ( جميل ) الذي تفخرُ به أمام النسوة ، ( جميل )  دبَّ الحماسُ فيه فأخرج من جيبه منديلاً يلوح به بيده ، طبّالٌ يقتربُ منه بينما ينزلُ هو على ركبتيه وينهصُ تبعاً لِقرعِ ( الكريف ) على الطبل ، ما أن شعر ( جميل ) بالتعب حتى وانضم إلى حلقةِ الراقصين يمسك برأس الدبكة وشعورٌ ينتابه أنه نال إحسان الجميع سيما ( خديجة ) التي كان يغمز لها بين الحين والآخر بوجهه الباشِّ دائماً ، لم تخلو الساحة من الراقصين ، سُرعان ما وجدتُ أخاه ( منان ) يحتل مكانه ، ( منان )  بعكس  جميل ، كان حادَّ الطبع ، جريئاً إلى حدِّ التهور ، ما رأيتهُ قطُّ يبتسم لأحد أو يضحك ، سُحنةٌ غاضبة ، رأس كبير ، كرشٌ يتقدمه في المسير ، رغماً عن ذلك فإنه  ما كان يتركُ ُعرساً إلا ويمارس فيه هواية الرقصِ بمفرده في وسط الدبكة ملوحاً بمنديلٍ يخرجه من جيبه ... يرمقُ الآخرين بعينين جديتين لا توحيان لشيءٍ رغم أني كنتُ أحاول جاهداً أن أفسر صمته أثناء الحديث معه ، كنت أحاول قراءة ملامحه فلا أهتد إلى معرفة وقعِ كلماتي ، هل أسعدتهُ أم أنه شعر بالامتعاض ، غريبٌ أمرُ هذا الرجل ، يلزمُ الصمت دهراً لكنه وحينما لا يُعجبه حديثُ أحدهم فإنه يخاطبه بِحِدَّةٍ لا تخلو من التأنيب الذي يحمل في طياتهِ تقبيحاً لِمُحَدِّثه ....
( الطبالون ) كانوا على قدر كبير من الخبث فبالرغم من أنهم يقبضون أتعابهم من صاحب الحفل لكنهم وبعد أن يتكاثر الراقصون وتكبر حلقة الدبكة فإنهم يشيرون لبعضهم ، عازفٌ المزمار يقتربُ من الراقصين بالتدريج ، خدان منتفختان ، مزمارٌ طرفه الضيق في الفم بينما الطرف الدائري الأوسع في المقدمة يُصدِرُ ألحاناً تبعث على الحماس ...  وأما قارع الطبل فكان يقترب بدوره من الراقصين وبكل ما أوتي من قوةٍ يضربُ بعصاه ، حينها يأتي دور  " الكريف "  الثالث ،  يقترب من أحد الراقصين ،  يسأله عن اسمه : ( شوبوش حاساني عبدكي شوبوشششششش ) يُخرجُ ( حسن ) قطعة نقدية يتناولها الكريف ويرفعها عالياً وهو يجول في الساحة صارخاً  :

ــ شوبوش حاساني عبدكي حازور واراق ...

أحياناً ، يطلبُ أحد الراقصين من الكريف أن يتدحرج بجسده على الأرض ، سُرعان ما ينفذ الكريف رغبته ومن ثم ينهض لاستلام ( الشوباش ) راضياً ممتنَّاً ...   غريبٌ أمرُ هذ النوع من البشر ممن يشاركوننا العيش في بقعة جغرافية واحدة ،  فرغماً من نهضة للوعي شهدتها مجتمعاتنا على مر السنين لكن ( الكريف ) أنفسهم يستحلون العيش في الدونية ، هم  يحترموننا ويطلقون علينا لقب ( عشيرات ) ويعنون بها أننا من طبقة الأشراف والأسياد .. 

لا أعتقدُ البتة بأحدٍ من الشبان والفتيات غاب عن مثل هكذا حفل ، الجميع حاضر فإما راقصٌ أو واقفٌ خارج الدبكة يتأمل مجريات الحفل أو ربما تزدحم بهم أسطُح أبنية تشرف على الساحة .. ما كنتُ آبهاً للذكور إنما الإناث كُنَّ مصدر اهتمامي ، يا إلهي ، كم هنَّ جميلات أولئك اللواتي يجلسنَ على أسطح الأبنية يراقبن مُجريات الحفل ، نعم ، إنهنَّ هكذا ، وبالطبع ما إحداهنَّ تحضرُ إلى مثل هكذا فرح إلا وقد ارتدت أجمل ما لديها من ثيابٍ بينما ساعاتٍ طِوال قضتها أمام المرآة تستخدمُ ( المكياج ) في إظهار الوجه بحيث يُؤدي الغرض في إغواء الشبان أكثرهنَّ وإغواء الحبيبِ على وجه الدقة .. من بين الجموع توجهت إلي مخاطبة : ــ لو صالوح ياورم تا آويما نادي .. ابني صلاح ألم ترَ ( تَبَعنا ) ؟؟... كانت ( باسّو ) امرأة في الخمسين من عمرها ، طيبةٌ إلى أبعد الحدود ، كان الخجل يلازمها أثناء حديثها مع الآخرين ، متزوجة هي من ( محمد دينو ) رئيس الجمعية الفلاحية في القرية ، أبداً ، لم يسمعها أحد أنها نادت زوجها ( ميريمن / زوجي ) كانت تخجل من نطق الكلمة ، أجبتها أخفي ابتسامتي : ــ لي خولتيكي باس ، آوي وا .. كيا ...جيا ..... أيتها الخالة باس ، عمَّ تتحدثين ومَن هوَ ( تبعك ) ؟؟ ــ لو ياورووم ... هاوووو ...هاوو... لو تخير جمن فاعمنوكي ... أي بُنَيَّ إني أقصده هو .. هو ... لماذا لا تفهمني ؟؟... """""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""" العطار ( كمال ) كانت بضاعته تلقى رواجاً في جميع فصول السنة ، كان الرجل يغادر القرية إلى حلب مرتين في الشهر ، سوق ( المدينة ) كان يحفظُ أزقته الضيقة وحينما يمر بالمحلات فإن أصحابها يحيونه فالجميع يعرفه ، كمال ، كان يُتقن القراءة إلى حدِّ ما وأما كتابته ، فما أحدٌ يفهم عليها إلاهُ هو ... يعود الرجل ببضاعته إلى القرية . أولُ سؤالٍ تبادره زوجته ( فوطمي هاويشي ) : ــ هل أحضرت معك كريم ( حب الشباب ) ، ها...قل لي .... يبتسم لها : ــ اطمئني ، لم أنسَ شيئاً مما في قائمة المشتريات .. كان من عادةِ كمال أن يتشاورَ مع زوجته قبل الذهاب إلى حلب ، وأما كريم حبّ الشباب فكان مُعظم فتيان وفتيات القرية يرغب في شراءه ، قلما تجدُ صبياً أو صبية يخلو وجههما من البثور التي تُزعجهما وما يريان حلاً لها إلا بالكريم التركي الذي يبيعه العطار كمال ... بضاعته رائجة ، كان الرجل سَلِساً في تعامله مع أهل القرية الذين يشترون منه ، كانَ يُمهلهم إلى موسم التفاح أو السماق أو الزيتون كي يسددوا ما يترتب عليهم ... كان الرجلُ هاشّاً باشّاً ، في صبيحة كل يوم كنتُ أراه يعبر أزقة القرية ينهر حماره الذي يتدلى من جانبيهِ صندوقان خشبيان يمتلئان بأنواع من ( جيت / صابوني بين خاش / مناديل الجيب / مناديل البنات / زجاجات عطر صغيرة ) .... كانت قرى ( دالو / حج قوسمو / حج حسنو / ترميشو ) مَقصده كل يوم وأما حينما يُقفلُ عائداً إلى القرية في المساء فإن الأهالي كانوا يحضرون إلى منزله فيشترون منه ما يشاؤون ... من عادة الرجل أنه وحينما يدخل إلى أية قرية فإنه يُعلي صوته يصرخ : ــ وارن .. صوبيني بين خاش ، داسمولي قيزكو ... حانا ... كيل ... جيت ..... ■ وبينما أنا في حلقةِ الدبكةِ منتصبٌ وبدني يزينه أفضل ما كنتُ أملكه من ثياب ، في جيب القميص مرآةٌ دائرية صغيرة ومشطٌ بحجم الإصبع ومنديلاً كنتُ أتعمدُ إظهارَ نصفهِ من الجيب إظهاراً للتأنق ، كانت عيناي تتجولان بِخُبْثٍ بين الحضور أبحثُ عن فتاة أحببتها من غير أن تعلم بحبي لها فلا من لقاء انفراديٍّ كانَ بيننا ولا من إطراءٍ وتقرُّبٍ أبديتهما في لقاءاتنا العابرة ، إنما الخيالُ كان يزخرُ بلقاءات ماجنةٍ كنتُ وإياها في أوضاعٍ حميمية ، وَلِمَ ؟؟.. فلأني للتو قدْ تَفَتَّقتْ ذكورتي وثارت براكيني ، كنتُ أحاذر النظر مباشرة إلى جمهرة فتيات القرية ممن هنَّ على الأسطح أو فيما يقابلنني من حلقة الدبكة الدائرية .. أخيراً وقعت عيناي عليها ولكن ، سرعان ما تواردت إلى ساحة المخيلةِ ما كنت أعيشهُ وإياها في لقاءاتنا ، انتفضتُ فجأةً وقد ظننتُ بأن جميعَ مَنْ في الحفل يعلم بأني وإياها تربطنا أواصرٌ حبٍّ شهوانيٍّ جارف ولكن ؟؟!!... يا إلهي ، كم هيَ جميلةٌ ، يا للروعةِ إنها أحسنت انتقاءَ منديل يغطي نصف شعرها ... يا إلهي ، نهدان مُكَوّران مثل صاروخين يودان تدميري .... خارت قِوايَ حينها فتمالكتُ جأشي واستعدتُ هيبتي فأنا لا يحق لي بأن أضعفَ فأصبح مجالاً لتندر البعض ، لكن أكثر ما كنتُ أخشاهُ أني كنتُ أحسبُ بأن جميع الحضور يعلمون بما يدور في خلدي وأني سأصبح حديث القرية بأني شابٌّ لا أمتلك ذرة شرف ... إنها تلك اللعينة التي كهربتني ، التفتُّ إلى يميني أتفحص مَنْ أمسكُ يده في الدبكة ، أصابني الامتعاض ، إنه ( عابديني جيلو ) يا الله !!!.. لا شكَّ وأنهُ كان يدري بما جالَ في مخيلتي من أفكار ، كان أهل القرية يطلقون عليه لقب ( إذاعة مونت كارلو ) ، كان الشاب سريعاً في نقل الأخبار، الكاذبة منها والحقيقية مع وضع لمساته على كل خبر يبثه في لقاءات أهل القرية أثناء زيارته للمضافة أو حين مشاركته الأهالي في قطاف الزيتون أو في مواسم ( السماق ) ...

    • كانت شمس الصيف لاهبة ، والفتيات كنَّ يتزينَّ بقمصانٍ ضيقة أو بفساتينٍ أنفقن على خياطتها ما خبأنهُ من مال جنينهُ من عملهنَّ في المواسم .. . بعضهنَّ يرتدين أسفل ( البلوزة ) تنورة ، يا لانتفاء أذواقهن ، فالقمصان ما كانت ألوانها تناسب ألوان التنانير ... البعض منهن كن يرتدين ( الفساتين ) التي تظهر تحتها أحياناً ( بناطيلٌ واسعة ) يسميها أهل القرية ( داربا ) ، كانتِ الأنوثة طاغيةً في الحفل فمن النساء مَنْ هنَّ نحيلاتٍ ومنهنَّ البدينات وأما ميّاساتُ القدِّ والحَسّاناتُ فكُنَّ يختبئنَ عن الأعين ويخترن أماكن لا تشهد ازدحاماً .... يا إلهي ، ما الذي أراه ، يا لقباحتك يا ( عاشي ) ، أوه .... ابتسمتُ لرؤيتها من غير إظهار ابتسامتي ... لا ... لن أقول بأنها ( شمبانزا ) وهي ليست بمقاس ( الفيل ) لا ... عيبٌ أن أسخرَ مما خلقه الله وأحسن في خلقه ولكن ؟؟... يبدوا أن في الأمر خطأً ما ، فالفتاة ( عاشّه ) من الوزن الثقيل ، وحدها كانت ترتدي البنطال ، نعم ، وإنها كي تُخفي عيوباً كانت فيها فإنها أمضت أوقاتاً كثيرة أمام المرآة ، البائسة وضعت مساحيقاً بدَّلت من سَمار وجهها أو سوادهُ فأصبح وجهها الكروي أشبهَ بلوحةً لن أقولَ بأنها بشعة ، لا ... عيبٌ أن أسخر منها ... ولكن ؟؟.. حقاً فإنها تبعث الخوفَ فيمن يُحَدِّقُ فيها ملِيّاً .. .. معظم فتيات قريتنا لم يبرعن في وضع مساحيق تناسب بشرتهن . كنت أرى الكثيرات في حلقة الدبكة ، شمسٌ حارقةٌ تلفح الوجوه بينما كحل العينين الأسود قد شكل خطوطاً على الوجوه فغيرت من ملامحهن لكنهنَّ والحق يقال ، كنَّ ورغم ذلك ، ما يُبارحنَ حلقة الدبكة إلى بيت مجاورٍ للاطمئنان على حسن المظهر ، ربما ، كنَّ أيضاً مثلي يعشن عالماً من خيالٍ ... كنتُ أنا العبد الفقير أوجهُ رأسي إلى جهة الذكور الراقصين وبين الحين والآخر وسِراعاً عيناي تحطان على المكان الذي تجلسُ فيه جميلتي التي ما كانت تعلم هيامي بها ... نعم ، فإنها تتميز عن بقية بنات القرية بشدة الحياءِ وجمالية البدن وإنها أيضاً تمتلكُ ذوقاً في انتقاء ما يناسبها من ثياب ومناديل تغطي رأسها الجميل.. آهٍ منكِ أيتها الرائعة قد سلبتني عقلي فأصبحت هائماً في جنون حبك ...
    • كم يُؤلم الروح حينما تعيش أسعد لحظاتكَ فيأتيكَ أحدهم يُعَكِّرُ صفْوَ مزاجكَ ويُبعدكَ عما أنتَ فيه من أفانينِ الفرح ، حلقة الدبكة كان يَؤُمُّها الراقصون ويغادرها مَنْ شعر بالتعب لكني وحدي ما كنتُ أشعر بالإنهاك ما دامت فتاتي باقيةً في المكان لا تغادره ، كم كنتُ حينها أتمنى بأن تتركَ مكانها على السطح فتهرعَ إلى ساحة الدبكة تختارني أنا لا سوايَ من الشبان كي تنتصب بمحاذاتي بينما إحدى يديها تتشابكُ مع إحدى يدي، نعم ، كم أحببتُ ذاك المشهد رغم علمي أني وبمجرد أن تلامسني فإن كهرباءً شديدة اللسعِ ستسري في الروح والبدن ....
    • " حظي وأعرفه جيداً " ... فبينما أنا في تلك التهيُّؤات ، غادرَ حلقة الدبكة ( عابدي جيلو ) مَنْ يحاذيني يميناً ، لم آبَهْ لذلك لكني سُرعان ما شعرت بنعومة اليد التي أمسكت بيدي ، التفت جانباً فرأيتها ، ها... إنها ( فوتكي جاعفو / فاطمة بنت جعفر ) ، أشحت النظر عنها سريعاً وحالةٌ من إرباكٍ كنتُ فيها :

ــ يا الله ، ألم تختر هذه الفتاة إلايَ كي تأتي فترقص بمحاذاتي ؟؟... كانت ( فوتكي ) واحدة من فتيات قريتنا ، عشوائيةً في جميع تصرفاتها ناهيك عن جرأة تصل إلى حد الوقاحة في بعض الأحايين ، لسانها كانَ سيفاً يُكْلِمُ الأفئدة ويوجع الأنفس ... كانت فظّةً في تعاملها مع شبان القرية الذين يهابونَ الاقتراب منها ، ممازحتها أو مشاكستها فالأمر سيّان فالفتاة دائماً تنتصرُ على الجميعِ ، إياكَ ثم إياكَ أن تخالف رأيها في الجمال كونها تظنُّ بنفسها أجمل النساء ، قد حدث مراراً فيما بيننا مُلاسنةٌ كلامية كنتُ البادئ فيها ويا ليتني لم أبدأ ، كان موسم الزيتون والأهالي يتعاونون فيما بينهم ، أكثر عوائل القرية انتهوا من جني الثمار ونقل المحصول إلى المعاصر الثلاث في القرية : ( معصرة : شكري آغا / معصرة :بيت عبو / معصرة مصطفى آغا ) ، في عصر يومٍ ما والقرويون عائدون من الحقل ، سمعت صوتها ، التفت إلى المصدر ، كانت ( إيسما / أم فوتكي ) : ــ لو يوروم ... تخير بمارو حورنوكي ... أي بُنَيَّ لماذا لا تأتي لمساعدتنا في جني المحصول ..... كانت المرأة تتوسل ، وما كان لي بُدٌّ إلا وأن أقبلَ : ــ طبعاً أيتها الخالة ، سأكون غداً في أرضكم ولكن ؟؟.. أين تكونون ؟؟.. ــ سنكون في أرضنا التي تقع في ( جالي حافتير / وادي الضبع ) .... انصرفت المرأة راضية بينما انتابتني الوساوس والمخاوف والندم في أني سألتقي بتلك الحمقاء في حقلهم ، نعم ، وإنه لن يكون لقاء عابراً إنما سنكون في بقعةٍ جغرافية واحدة طِوال النهار ... كنتُ أخشى لسانها وبالمقابل فإني كنت أخاف انفلات لساني ( زموني سورك ) .. نعم ، أذكر تلك المشاهد بأدق تفاصيلها ، فحينما جلسنا لتناول الغداء ،هرعت ( فوطما ) إلى شجرة زيتون التي ربطت في أحد أغصانها قطعة قماشية ( جقن ) تحتوي على بعض من الطعام ( زيتون / بندورة / بصل / فليفلة / خبز / لبن / برغل بعدس ) ، مدَّت على الأرض وصاحت بأبيها : ــ بوفو ، كو شامليخو ... أبي ، أعطني غطاء رأسك ... مدت الغطاء على الأرض ورصفت عليه الأوعية ..... ــ لي جوق كيرنابي تا خو نونيا جيا ؟؟ ... يا ابنتي ألم تُحضري الملح ......... خاطبتها أمها .... أخرجت ( خاتيجا ) من جيبها ملحاً قد ربطته بقطعة من النايلون : ــ لي أوني .. آز قيزي ميروما .. آز تشتكي جه بيرناكم .... أمي ، أنا ابنة الرجال ، لا أنسى شيئاً أبداً ...

** " لساني الأحمر ، زموني سورك " انتفض فجأة ، فالأمر ما كان يقبل الصبر والاحتمال ، خاطبتها : 

ــ لا تمدحي ذاتك كثيراً ... نظرت إلي بِحِدَّة : ــ أنا أشطر فتيات القرية وأجملهن ، هل تشكُّ في ذلك .... أجبتها وقد بانت علائم غضب وتعجرف على وجهها : ــ ومن أخبرك بأنك أجمل الفتيات ، هل يمكنك القول ، لماذا يهرب جميع الشبان منك ويتحاشون لُقياك وتجاذب أطراف الحديث معك ؟؟.. ــ آزي كيو بقربون خوكم .... كشتك نوكينن دورنوقيمن ..... فليكن جميع الشبان قرباناً ، إنهم أجمعهم لا يُعادلون إظفراً من أظافري .... أخرجت ( خاتيجا ) مرآتها وناولتها لي : ــ لخو بنرا ... تو .. نا ... واك بتيمن ( ميّوسايا ) ..... نو...نو .. بسابر ، تو واك بزنيِ " مولي عتينا " ...( انظر إلى نفسك ، إنك تشبه جدتي مياسة ، لا .. لا ... اصبر قليلاً ... إنك أشبهُ بعنزة بيت " عتون " ) كانت هذه اللعينة ترميني بسهامها وهي تقهقه مثل دجاجة جدتي ( ميمو ) حينما تُنبهُ أصحاب البيت كلهم في أنه حان لها أن تُسقط البيضة من مؤخرتها ... قا...قا ...قا.... أسكتتني هذه الحمقاء بهذا الوصف لكني ما كنتُ أقبل الضيم وما كان طبعي سكوتاً على مَنْ يهينني : ــ أنا أقبل بما وهبني الله من جمالية ولكن من فضلك ، هل تذكرين ذاك الرجل الذي يأتي إلى قريتنا في المواسم ومعه قردٌ يلاعبه ويطالبهُ بحركاتٍ مُضحكة ، ها .. ها .. هل تذكرين كيف أنه يقلدُ العجائز في السير ، أو أنه كيف كان يرقص .... كنا نسميه ( كين سورك ) ... ـــ أي .... جه بيا ... ( نعم ، وماذا بعدها ) .... ــ سبحانَ مَن خلق من الشبه اثنين ، أنتِ و ( كين سورك ) ..... كانت تلك الأحداث تمر أمام ناظرَيَّ ما أن نظرتُ إلى ( فوتكي ) وقد شبكت يدها بيدي ... قد تبدل مزاجي حينها ، أصبحتُ عدوانياً إلى حد ما ، لم أقبل بأن ترقص ( خاتيجا ) بجانبي لأنها ذات مرة قد وبختني منادية إياي : تاتي نبلي .... كنت أكرهها كثيراً وحينما أقارن بينها وبين فتاتي ، فإني أطلقها زفراتٍ وآهات : أينَ ( خاتيجا ) من فتاتي ؟؟.!!!!..

    • قد أثَّرت الشمس في الكحل الذي وضعته ( فوتكي) عينان سوداوان أصبحتا أوسع من المعتاد ، بينما خطوطٌ سوداءٌ تنسدلُ فتلون الخدين لتجعل من الوجه لوحةً يشمئزَّ المرء نظراً إليها وأما الخدان ، وما أدراك ما الخدان ، كانا مثل تفاحتين حمراوين تظهران الإساءة في استخدام المساحيق ، بين الحين والآخر كنت أراقب صدرها ، يا إلهي ، كُرتان تتأرجحان ناراً ، خفتُ بأن تُحرقاني لذا ، عزمت الأمر أن أضعَ حداً لهذه المهزلة ، التفتُّ إليها هامساً :

ــ ( فوطما) .... ــ ها ... ماذا ... جه هايا ؟؟ ــ هل تودين نصيحتي ؟؟. ــ نعم .. قل ما الذي تود قوله ؟؟.. ــ هل تعرفين ( نازو ) كنة بيت ( مست كنكي ) ... ــ نعم ، أعرفها ... ــ أظنها كانت تعمل في صالون للتجميل في حي الأشرفية ... ــ نعم ، لكنها قد أحضرت معها كامل أدوات التجميل ، هي من الآن فصاعداً .. ستعمل في القرية .. ــ نعم ، أعلم ذلك .... ــ أي ... وماذا تودُّ القول ... انطق هذه الجوهرة ... ــ بالمختصر المفيد ، أنصحكِ بزيارتها قبل أن ترتادي أحدَ أعراس القرية .... نظرت إلي ( خاتيجا ) تتساءل : ــ جما آز جه بيما ... أخبرني ، ألست بجميلة ، ألا أتقنُ تجميل ذاتي ؟؟.. ــ أشهدُ أنكِ من أجمل فتيات القرية ولكن ؟؟.. ــ ولكن ماذا ؟؟.... أخرجتُ من جيبي مرآتي الدائرية الصغيرة ، مددتها لها كي تتأمل وجهها : ــ أي .. جه بيا ... أي .. وماذا في ذلك .. إنها الشمس قد أثَّرت على الكحلة .... ــ نعم ، إنها الشمس اللعينة لكني أودُّ القول بأنني وجميع شبان القرية نخاف كثيراً من مشاهدة المسلسلات أو الأفلام التي تحمل طابع الرعب والخوف .... نظرت إليَّ باشمئزاز ورغبة جامحة في الانقضاض عليَّ لكنه الحفل وجمهرة الناس قد منعاها إقداماً على الجريمة ، سراعاً تركت يدي مغادرةً إياي وهي تتمتم : ــ تاتي نبلي ، هاوجي سيجي منا آز بتارو راقصيم .... أيها ( تات نبلي ) إنه خطأي أني رقصت بمحاذاتك ...

֍ نعم ، صدقت أمي حينما قالت يوماً : " زموني سورك أي بالو هيني ساريتا " ....

[[ تصغير ]]