انتقل إلى المحتوى

مستخدم:عبد المؤمن/مسودات/الأندلس

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

الفتح[عدل]

حقق طارق بن زياد – رحمه الله - وجنده نصراً مؤزراً في وادي بَرْبَاط، حيث انتصر المسلمون وهم 12 ألفاً على 100 ألف من أعدائهم الفرنجة. ثم أخذ طارق بن زياد جيشه بعد انتهاء المعركة مباشرة واتَّجه شمالاً؛ لفتح بقيَّة بلاد الأندلس، ففتحها بإذن الله وعونه ونصره لما كان معتزاً بدين الله لا باليهود والنصارى، وكان همه نصرة الإسلام لا العصبية وشهوة السلطة وحب الدنيا، وكان جيشه وجنوده صفاً واحداً لا متفرقين شذر مذر.

المرابطين[عدل]

عدَّ العديد من المُؤَرِّخين المحدثين الجِهَاد من الأسس المهمة التي قامت عليها الدّولة المُرَابِطية (448 - 541هـ/1056 - 1146م)، ونظراً لتعاظم الأخطار الخارجية وتهديدها للعالم الإِسْلامي، تشدد الْفُقَهَاء في مفهوم الجِهَاد، حيث كان فُقَهَاء الدّولة المُرَابِطية يستشارون في أمور الإدارة والْحَرْب والسّياسة الخارجيّة للدولة، وكانت لهم جهود فعالة في ميدان الجِهَاد بالأَنْدَلُس.

القضية الكبرى التي كانت تشغل الأَنْدَلُس في ذلك الوقت، هي الصراع الإِسْلامي النصْرَانِي، وكان تأثير الْفُقَهَاء بالغ الأهمّيّة في نفوس الجنود المُرَابِطين نتيجة تأثيرهم الدّيني القوي في بث روح المقاومة والجِهَاد. كما تعددت إسهامات الْفُقَهَاء في ميدان الجِهَاد؛ فبعضهم كان يحث النَّاس على الجِهَاد في أماكن التجمعات؛ كالمساجد والأَسْوَاق والميادين العامَّة وغيرها، كما صدرت عنهم الفتاوى والرسائل والمُؤلَّفات والأشعار التي تعمل على استنهاض همم مسلمي الأَنْدَلُس للجِهَاد ضد الأعداء، كما كان لهم أثر في النفقة لمصلحة الجِهَاد؛ كتجهيز الغزوات وإصلاح الأسوار أو فك أسرى الْمُسْلِمِين، ودعوا الرعية إلى الإنفاق في هذه المجالات[1].

وحَضَّ عدد كبير من الْفُقَهَاء الْأُمَرَاء على الجِهَاد؛ ولم يتردّد الفَقِيه أَبُو بَكْر الطُّرْطُوشِي (ت 520هـ/ 1126م) في دعـوة المُرَابِطين للجِهَاد في الأَنْدَلُس، ويتجلّى موقفه بوضوح في رِسَالَة بعثها إلى يُوسُف بن تَاشفِيْن، ومما قـال فيها: “فجهاد الكفار فرض عليك فيما يليك من ثغور بـلاد الأَنْدَلُس”[2].

كما استقوى فُقَهَاء بَلَنْسِيَة بالمُرَابِطين لتخليص المَدِينَة من حكم النَّصَارَى وتسلط السيد القمبيطور عليهم، وعندما انتقل إلى سَرَقُسْطة 485هـ/ 1092م استغل الْفُقَهَاء الفرصة، وراسل قَاضِي المَدِينَة ابن جَحاف والفَقِيه ابن واجب صاحب الأحكام ومعهم أهل الحل والعقد، واتصلوا بقائد المُرَابِطين في مُرْسِيّة ابن عَائِشَةَ؛ فأرسل إليهم قائده ابن نصر على رأس قوة من المُرَابِطين “فخرج الْقَاضِي والْفُقَهَاء لتلقي ابن نصر”[3].

تمكن الفَقِيه ابن جَحاف من قتل ابن ذِي النُّوْن والاستيلاء على السلْطَة، لكن حكمه لم يدم طويلاً، إذ تمكن السيد القمبيطور من الاستيلاء عليها 487هـ/ 1094م، وقام بقتل ابن جَحاف وأحرق جثته، وفي عام 495هـ/ 1101م تمكن المُرَابِطون من استردادها مرة أُخْرَى. وفي أثناء حصار السيد القمبيطور لبَلَنْسِيَة نظم الفَقِيه أبو الْوَلِيد الوَقَّشي (ت 489هـ/ 1096م) قصيدة طويلة يصف فيها المأساة التي أصابت البلاد والعباد فيما عرف بمرثية الوَقَّشي، ويظهر فيها النكبة، وتساقط الرجال والنساء والأطفال، وكشف الحرمات[4].

وحرَّض أيضاً الفَقِيه أبو جَعْفَرٍ بن عطية، عَلِي بْن يُوسُف لما سقطت مَيُورْقَة 508هـ/1114م، وصور ما لحق بالْمُسْلِمِين من المأساة لينهض لنصرة الدّين ورفع الظلم الواقع على الْمُسْلِمِين، فيقول: “واحر قلباه أمر مَيُورْقَة ورأب الله بصرفها صدع الجزيرة، وجبر بجبرها من جناح الإِسْلام كسيرة. فيالله لما كان فيها من إعلان توحيد قد عاد همساً، وبارقة كفر طلعت شمساً”[5]. كما نظم قصيدة تحض على الجِهَاد، وتكشف عن حالة الأمل عند أهل مَيُورْقَة في استرجاع مدينتهم، وحث أمير المسلمين علي بن يوسف داعياً إلى الجهاد. وصور ابن عطية صفات الشهيد؛ ومنها: عدم الفرار من المعركة والنجاة الذليلة كما يعد الذل والفرار موتاً حقيقياً. استجاب أمير الْمُسْلِمِين لموقف ابن عطية، وأوصى بإعداد الأسطول، ووكل أمره إلى القائد مُحَمَّد بن ميمون، ليطرد النَّصَارَى من مَيُورْقَة، وليحمي الشواطئ الإِسْلامية في الأَنْدَلُس، وبالفعل تحرك الأُسْطُول الإِسْلامي نحو مَيُورْقَة، فلما سمع النَّصَارَى بهذه التحركات بدأت قواتهم في الحال بالانسحاب والفرار. ووجد القائد مُحَمَّد بن ميمون مَيُورْقَة مدمرة، فشرع في عمرانها وأعاد إليها الفارين من سُكانها وأمن أهلها[6].

اشترك عدد كبير من الْفُقَهَاء في غزو قُلُمرية 511هـ/ 1117م التابعة لمملكة البرتغال؛ “وتحرك أمير الْمُسْلِمِين علي بن تَاشفِيْن، وتأهبت العساكر الأَنْدَلُسية، ولحقت من قُرْطُبَة لُمَّة من الْفُقَهَاء والعلماء، وتأهب فُقَهَاء إشبِيلِيّة، وأثخن جيش الْمُسْلِمِين في تلك الأنحاء تخريباً وقتلاً وسبياً، ولم تستطع قوات الملكة تيريسا ملكة البرتغال أن تقوم بأية أعمال دفاعية ذات شأن، وفر أمامه النَّصَارَى في كل مكان، واعتصموا بالمعاقل المنيعة”[7].

حض – كذلك - ابنُ رشدٍ الجَدُّ النَّاس على الجِهَاد والغزو بالْمَسْجِد الجامع بقُرْطُبَة، وكانت له مساع متميزة في الحفاظ على الوفاق بين أهل الأَنْدَلُس والمُرَابِطين للوقوف في وجه النَّصَارَى، كما عاقب بعض النَّصَارَى المتآمرين على الْمُسْلِمِين في الأَنْدَلُس الذين اتصلوا بالممالك النَصْرَانِية المجاورة، كما أفتى بعزل الأمير تميم بن يُوسُف (ت520هـ/ 1126م) عن القيادة بعد ما ظهر من سوء قيادته العسكرية التي أدت إلى تسهيل توغل ألفونسو المحارب من شمال الأَنْدَلُس إلى جنوبه ووصوله حتى ساحل البحر المتوسط. ونصح ابن رُشْد خلال مقابلته أمير الْمُسْلِمِين بإعادة تحصينات المدن الأَنْدَلُسية الكبرى، وبناء سور مَرَّاكُش وتحصينها، واستجاب له الأمير علي بن تَاشفِيْن سنة 520هـ/1126م[8].

وظَّف بعض الْفُقَهَاء المعارك والانتصارات الْحَرْبية لإعادة زرع الثقة في نفوس الأَنْدَلُسيين، خاصة بعد فترات الهزائم والتحالف مع النَّصَارَى؛ فيصف الفَقِيه أبو عبيد الله البكري انتصار الزَّلاَّقَة بقوله: “فتوح أضحكت مبسم الدهر، وسفرت عن صفحة البشر، وردت ماضي العمر، وأكبت واري الكفر، وجبرت الأمة، وجلت الغمة، وشفت الملة”[9]. كما لعبوا دوراً كبيراً في تحريض العامَّة على الجِهَاد لما لهم من نفوذ ديني واسع، لهذا كانوا يرغبون النَّاس في الجِهَاد عن طريق إظهار عظيم ثوابه، وألفوا الكتب في فضله، واستخدموا الخطب المنبرية والحلقات الدراسية، ويذكر الحميري (ت نحو 727هـ/ 1326م) أن الْفُقَهَاء كان لهم دور ملحوظ في وعظ الْمُجَاهِدين قبيل المعارك، فكانوا يعظون النَّاس ويحضونهم على الصبر ويحذرونهم من الفرار، وكان الْحُكَّام يطلبون من الْفُقَهَاء ذلك، مما كان له أكبر الأثر في الإعداد المعنوي للمجاهدين قبل القتال.

كتب الفَقِيه أبو مُحَمَّد عَبْد الله بن عَبْد البر مبشراً بالنصر فيقول عن الزَّلاَّقَة أيضاً: “يوم لم يسمع بمثله من القادسية واليرموك، فيا له من فتح ما كان أعظمه، يوم كبير ما كان أكرمه، فيوم الزَّلاَّقَة ثبتت قدم الدِّين بعد زلاقها وعادت ظلمة الحق إلى إشراقها”. كما قلل بعضهم من قوة النَّصَارَى وحشودهم فيصفهم ابن القصيرة قائلاً: “قد تحصنوا بالحديد من قرونهم إلى أقدامهم، واتخذوا السلاح ما يزيد في جرأتهم وإقدامهم، ولما أشرف على جنابها، ولسنا بها، ودنا من أعلامها، ولم يتجه لنا بعد ما أردنا من إلمامها، دعاه تعاظمه إلى مواجهة سبيلنا. ويولون الأدبار”[10].

أوحت واقعة استعادة مَدِينَة بَلَنْسِيَة (495هـ/1101م) للْفُقَهَاء بأن يزرعوا في النَّاس مقولة أن زمن الهزائم قد انتهى؛ فيقول أبو الفضل بن شرف: “فالآن قد نشر الميت من لحده، وعاد الحسام إلى غمده، فسبحان من سبب ما سبب، وأدب بالموعظة من أدب. فهبت ريح النصر، ومد بحر الظفر بعد الحسر”[11].

انعكس أيضاً خوض بعض الْفُقَهَاء غمار المعارك على كتاباتهم وثقافتهم الْحَرْبية؛ فصاروا يتحدثون عن الشؤون الْحَرْبية وآلاتها، فتحدث ابْن الْعَرَبِيِّ عن التعبئة والْقِتَال وحسن التدبير في الْحَرْب قائلاً: “فإن المقاتل إذا كانت الشَّمْس في وجهه عشى بصره ونقص فعله“؛ ثم حكى عن تجربة له في المعارك الجِهَادية فقال: “ولقد حضرت صفاً في سَبِيل الله في بعض الحروب مع قوم من أهل المعاصي والذنوب، فلما وازينا الْعَدُو أقبلت سحاب وريح ورزاز كأنه رؤوس الإبل يضرب في ظهر الْعَدُو ويأخذ وجوهنا فما استطاع أحد منا أن يقف في مواجهة الْعَدُو ولا قدرنا على فرس أن نستقبلها به، وعادت الحال إلى أن كانت الهزيمة علينا“. ولما تكلم ابْن الْعَرَبِيِّ عن الطبل ذكر أنه قسمان: طبل حرب وطبل لهو، قال: “فأما طبل الْحَرْب فلا حرج فيه لأنه يقيم النُّفُوس ويرهب على الْعَدُو“[12].

ووصف لنا الطرطوشي (ت: 520هـ/ 1126م) أسلوب قتال جند المرابطين عند لقائهم العدو، حيث قال: “يتقدم الرجالة بالدرق[13] الكاملة، والرماح الطوال، والمزرايق المسنونة النافذة، فيصفون صفوفهم، ويركزون مركزهم ورماحهم خلف ظهورهم التي تمزق سهامهم الدروع، والخيل خلف الرماة؛ فإذا قرب العدو رشقهم الرماة بالنشاب، والرجالة بالمزاريق، وصدور الرماح تتلقاهم؛ فتخرج خيل المسلمين بين الرماة والرجالة فتنال منهم ما شاء الله تعالى”[14].

وشارك عدد كَبِير من الْفُقَهَاء في الجِهَاد في ميادين القتال مثل الفَقِيه يعلي المصمودي (ت 479هـ/1086م) في موقعة الزَّلاَّقَة (479هـ/1086م)، واستشهد فيها، وكذلك أبو مَرْوَانَ عَبْدُ الْمَلِك المصمودي قَاضِي مَرَّاكُش، وكان مَصَاحِبُاً له واستشهدا معاً. ويعد أَبُو العَبَّاس أَحْمَدُ بن رُمَيْلَة القُرْطُبَي من الْفُقَهَاء الْمُجَاهِدين في معركة الزَّلاَّقَة، واستشهد فيها، ولم تكن مهمّة الشّيخ يومها مجرد الجلوس في الْمَسْجِد أو إلقاء الدروس أو تعليم القرآن فقط، فقد كان هذا الشّيخ يفقه أمور دينه ويعلم أن الجِهَاد فضيلة كبرى. وممّن استشهد أيضاً الفقيه أبو رافع الْفَضْل بْنُ عَلِي بْن مُحَمَّد بن حَزْم ابن فقيه الأَنْدَلُس ابن حَزْم، وكان من أهل الْعِلْم[15].

استشهد أيضاً الإِمَام الفَقِيه الجَزُولي في معركة أُقْلِيش (501هـ/ 1108م) وتعرف في المراجع الْمَسِيحيّة باسم “موقعة الأقماط السبعة” في المنطقة الْغَرْبية شمالاً للثغر الأدنى، وكان رجل صدق على حد قول ابن القطان (ت في حُدُود منتصف القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي)”.

وأسهم الفَقِيه ابن الحاج بدور فعال في الدعوة للجِهَاد ضد نصَارَى الشَّمَال، وكان من القادة الكبـار الذين شاركوا في الحملات الجِهَادية؛ فعندمـا تأكـد المُرَابِطون من اتصال ابن عَبَّاد بالنَّصَارَى استفتوا الْفُقَهَاء، فأفتوا بخلعه، وإثـر هذه الفتوى هاجمه القائد المُرَابِطي سير بن أبي بكر فاستولى على إشبِيلِيّة 484هـ/ 1091م، واقتحم ابن الحـاج أسوار قُرْطُبَة واستولى عليها بعد أن قتـل المأمون بن المُعْتَمِد[16].

استشهد ابن الحاج في وقعة البُوْرت 508هـ/ 1114م، والتي شارك فيها عدد كبير من الْفُقَهَاء، منهم: الفَقِيه ابن عَائِشَةَ وابن تافلويت (ت 611هـ/ 1214م)، والفَقِيه أبو أَحْمَدُ ابن سيد أمون الأزدي (ت 508هـ/ 1114م)، وأبو عَبْد الله بن عَبْدِ الْعَزِيزِ (ت 508هـ/ 1114م)، والفَقِيه أبو عامر بن المرشاني (ت 508هـ/ 1114م)، وابنه المقرئ ابن سعادة (ت 508هـ/ 1114م)، والفَقِيه يَحْيَـى بْنُ مُحَمَّدٍ الأُمَوِيُّ أَبُو الْوَلِيدِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ قبْروق قَاضِي شَاطِبَة، والفَقِيه أَحْمَدُ بن ثابت بن عَبْد الله العوفي (ت 514هـ/ 1120م)، والفَقِيه الوَزِير أبو جَعْفَرٍ ابن الْقَاضِي ابن القاسم[17].

واستشهد أيضاً الفَقِيه أبي علي الصَّدَفِي أحد الْعُلَمَاء البارزين في زمانه، وتبلور دوره الجِهَادي في محنة سَرَقُسْطة عام 512هـ/ 1118م لإيقاف الخطر النَصْرَانِي، فبدأ يحث تلاميذه ويرغبهم في الجِهَاد، ويثير الحماسة الدّينية عندهم، وتمكن من جمع عشرين ألف متطوع. وأثناء مرور الْجَيْش في معركة قُتَنْدَة أو كُتُندَة من مَدِينَة مُرْسِيّة إلى شَاطِبَةُ، توقف الْجَيْش للتزود بالمؤن، فألقى الصَّدَفِي دروساً عدة تحض على الجِهَاد وأعد نفسه للشهادة، وبالفعل استشهد في تلك المعركة سنة 514هـ/1120م. كما استشهد الفَقِيه فضل بْنُ عَلِي بْن أَحْمَدُ بن سَعِيد بن حَزْم، ومنهم من شارك في المعركة ولم يستشهد مثل الفَقِيه الكاتب أبي بكر مُحَمَّد بن سُلَيْمَان المعروف بابن القصيرة، وممن استشهد في هذه المعركة أيضاً الفَقِيه عبد الرحمن بن فتح اللخمي[18].

استبسل الْفُقَهَاء ومعهم عامة الناس في الدفاع عن مَدِينَة سَرَقُسْطة أثناء حصارها سنة 512هـ/ 1118م، حيث دارت معارك عنيفة بين الجانبين الإِسْلامي والصليبي على أبواب المدينة، تمكن فيها المسلمون من إنزال خسائر فادحة في صفوفهم وإحراق قنطرة سَرَقُسْطة كي يحيلوا دون عبور الْجَيْش الصليبي إلى المَدِينَة، ونتيجة لاستماتة الْمُسْلِمِين بالدفاع عن المَدِينَة، فكر البعض من القادة القشتاليين في رفع الحصار، وترك القتال بعد أن نفذت المؤن والأَمْوَال، لولا أن شجعهم أسقف مَدِينَة وَشْقَة ورفاقه بعد أن وضعوا تحت تصرفهم ذخائر الكنائس وأموالها لشراء الأقوات والأسلحة والعتاد[19]. نتيجة لهذا الوضع المتأزم حاول الأمير عَلِي بْن يُوسُف إنقاذ سَرَقُسْطة فأمر الجيوش المُرَابِطية بالتحرك صوب الثَّغْرِ الأَعْلَى تحت قيادة أخيه تميم بعد استنجاد فُقَهَاء وأهالي سَرَقُسْطة بالمُرَابِطين من أجل إنقاذ المَدِينَة من السقوط بيد القشتاليين. جاء هذا الاستنجاد على شكل رسالة بعثها قَاضِي سَرَقُسْطة إلى الأمير أبي الظاهر تميم بن يُوسُف بن تَاشفِيْن سنة 512هـ/ 1118م - قبيل تسليم المَدِينَة بثمانية عشر يوماً فقط -، وتضرعوا فيها إلى الأمير بأن يسرع في إنقاذ المَدِينَة، وتشير الرسالة إلى مقدم الأمير تميم بجيوشه وتلومه على إحجامه عن لقاء الأعداء، ثم تشير إلى أهمية سَرَقُسْطة الدفاعية، وأنها إن سقطت بأيديهم ضاعت الأَنْدَلُس. وتوجه أهل سَرَقُسْطة في ختام رسالتهم بالتوسل إلى الأمير تميم أن يسرع إلى بلدهم قبل وقوع الكارثة[20]. عنـدما وصـل تميم أواخـر أيام الحصـار إلى مقـربة من سَرَقُسْطـة خـرج إليـه الفَقِيـه علي بـن مسـعود بـن إسحـاق الخولانـي (ت 518هـ/ 1124م) قَاضـي مَيُورْقَة، والْخَطِــيب أبو زيـد بن منتيـال، وحدثاه باسم أهلها، لكن الأمير تميم “جَبُن عن ذلك” وكان انتقاله بالجيوش عن سَرَقُسْطة سبباً في نجاح النَّصَارَى في الاستيلاء على المَدِينَة[21].

شارك الفَقِيه ابن الفَرَّاء (ت 514هـ/ 1120م) الْمُسْلِمِين بالأَنْدَلُس جهادهم ضد النَّصَارَى، وأهم المعارك التي شهدها معركة قُتَنْدَة، والتي دارت فيها الدائرة على الْمُسْلِمِين، وكانت بقيادة عَلِي بْن يُوسُف بن تَاشفِيْن؛ ففي عام 514هـ/ 1120م توجه ابن ردمير بجيوش النَّصَارَى حتى انتهى إلى قُتَنْدَة بالقرب من مُرْسِيّة في شرق الأَنْدَلُس، فحاصرها حصاراً شديداً وضيق على أهلها، فتوجه إليه عَلِي بْن يُوسُف بن تَاشفِيْن بجيوش الْمُسْلِمِين، وكثير من المتطوعة، حتى التقى الْجَيْشان وتقاتلوا قتالاً شديداً، وانتهى الأمر بهزيمة الْمُسْلِمِين. وكان فيمن قُتِل أبو عَبْد الله بن الفَرَّاء قَاضِي الْمَرِيَّة، وكان من الْعُلَمَاء والزهاد في الدُّنْيَا العادلين في القَضَـاء[22].

وكان للأدب والشعر، خاصة الرجز، دوره في التحريض على القتال، وفي تسجيل أحداث القتال، مثل مدة الحرب وهولها ومجرياتها ونتائجها؛ فعندما حاول ألفونسو المحارب احتلال سَرَقُسْطة 509هـ/ 1115م وتصدى له ابن مزدلي، نظم الفَقِيه ابن أضحى (ت 540هـ/ 1145م) قصيدة يسخر فيها من النَّصَارَى:

يا أيها الملك مضمون لك الظفر

أبشر فمن جندك التأييد والقدر

وأب لنا سالماً والسعد مقتبل

والدين منتظم والكفر منتثر[23]

وانتقد الفقيه ابن الصيرفي (ت 542هـ/ 1147م) حالات الهزائم المتكررة في أواخر عصر المُرَابِطين، وعبر عن ذلك في قصيدة قوية ينتقد فيها سوء الأحوال[24]، كما هاجم ابْن الْعَرَبِيِّ المتقاعسين عن الجِهَاد، ووصفهم بالثعالب[25]، كما أرسل الفقيه ابن عطية رسالة شعرية طلب فيها الغوث لأهل مَيُورْقَة عندما حاصرها أهل جنوة بثلاثمائة مركب سنة 518هـ/ 1124م، واستخدم الفَقِيه عبد الجليل بن وهبون أيضاً سلاح الشِّعر في تقوية نفوس الْمُجَاهِدين فمدح الْمُجَاهِدين في معركة الزَّلاَّقَة قائلاً:

وصاروا فوق تلك الأرض أرضاً

كأن وهادها منهم آكام

وأنشد الفَقِيه ابن أبي الخِصال شعراً حماسياً عندما هاجم الأمير تَاشفِيْن مَدِينَة كركي 530هـ/ 1136م، وانتصر على النَّصَارَى، وأهدى الفَقِيه ابن الصيرفي (ت 542هـ/ 1147م) قصيدة شعرية إلى الأمير تَاشفِيْن بن علي في سياسة الْحَرْب سنة 524هـ/ 1133م[26].

مما سبق يتضح لنا تعدد إسهامات الْفُقَهَاء في ميدان الجِهَاد؛ فبعضهم كان يحث النَّاس على الجِهَاد في أماكن التجمعات كالمساجد والأَسْوَاق والميادين العامَّة وغيرها، كما صدرت عنهم الفتاوى والرسائل والأشعار والمُؤلَّفات التي تعمل على استنهاض مسلمي الأَنْدَلُس للجِهَاد ضد الأعداء، كما كان لهم أثر في النفقة لمصلحة الجِهَاد، كما شارك عدد كَبِير منهم في الجِهَاد ومنهم من استشهد - رحمهم الله -.

العرق[عدل]

العرب والبربر[عدل]

لقد ذهب نفر من المستشرقين والمؤرخين المحدثين، إلى أن العرب اختصوا أنفسهم بأحسن أرض الأندلس، وخير بقاعها، وأخصب وديانها ونواحيها، ولم يتركوا للبربر غير الفيافي والقفار والجبال القاحلة، والنواحي القصية، التي لا خير فيها، في الشمال والشمال الغربي، مثل نواحي جليقية واسترقة وليون والاسترياس، وزعموا أن هذا التقسيم المجحف للأقاليم المفتوحة، كان من العوامل التي شجعت البربر على تحدي السلطة المركزية، ورفع لواء التمرد ضدها من آن لآخر، وكان من ثم، من أهم أسباب الثورة البربرية، ضد العرب في الأندلس، بعد ذلك، أي في سنة 123هـ.

والمسئول عن إثارة هذه الشبهة، هو المستشرق الهولندي دوزي (Dozy)، في كتابه (Histoire Des Musulmans de Espagne) أي (تاريخ المسلمين في أسبانيا)، وكذلك المؤرخ الأسباني رافائيل التاميرا (R. Altamira) في كتابه (Historia de Espana)، أي (تاريخ أسبانيا) وتلقفها عنهما عدد من المستشرقين والمؤرخين، سواء من نصارى الأسبان أومن غيرهم، ومن بينهم مؤرخون عرب، وعلى رأسهم المؤرخ الدكتور محمد عبد الله عنان في كتابه (دولة الإسلام في الأندلس)[1]-، والذي ظهر في منتصف القرن الماضي.

وقد قام المؤرخ الدكتور حسين مؤنس مشكورا مأجورا، بتفنيد هذه الشبهة خير تفنيد، في كتابه (فجر الأندلس )، فذكر أن ما زعموه ليس صحيحا على إطلاقه، وأنه مبالغة، لا تؤيدها المراجع، وعزز رأيه بالعديد من الدلائل والشواهد والوقائع، وفيما يلي بعض من تلك الدلائل مع محاولة تعزيزها بما ورد في المصادر الأندلسية الأخرى[2]:

1- أن شبه الجزيرة الإيبيرية، بلد فسيح عظيم واسع، في حين أن العرب، لم يكونوا من الكثرة، بحيث يستطيعوا الانفراد بكل سهوله وأراضيه الخصبة، في الشرق والجنوب والوسط والغرب. بل إنه في حقيقة الأمر، ونظرا لمساحته الشاسعة، كان يتسع لأضعاف من نزل به من العرب والبربر معا. ولذلك فقد ترك العرب لغيرهم نواحي من أخصب ما في الأندلس، فقد تركوا مثلا أحواض الواديانة والتَاجُه ونهر شقورة (نهر مرسية)، ونهر شقر (نهر بلنسية)، والوادي الأبيض ووادي لكة، وغيرها كثير، ولم تكثر منازلهم بشكل واضح، إلا في حوضي الوادي الكبير، ووادي أبره الأوسط وفروعهما الكثيرة.

قلت: بل إن هناك نواح لم يسكنها لا العرب ولا البربر، قال ابن حوقل، الذي زار الأندلس في القرن الرابع الهجري: وبالأندلس غير ضيعة فيها الألوف من الناس لم تمدّن، وهم على دين النصرانية روم، وربما عصوا في بعض الأوقات ولجأ قوم منهم إلى حصن، فطال جهادهم لأنهم في غاية العتو والتمرد، وإذا خلعوا ربقة الطاعة صعب ردهم إلا باستئصالهم، وذلك شيء يطول[3].

2- أن العرب لم يختاروا مواضعهم، فهم لم يدرسوا شبه الجزيرة ويتبينوا الطيب من أرضها وغير الطيب، ولكنهم استقروا حيث شاءت لهم المقادير، على طول خطوط الفتح، أي في النواحي التي عرفوها لأول دخولهم البلاد، وعلى هذا النحو أيضا كان استقرار البربر، وقد لجأ كل فريق منهم إلى ما يناسب مزاجه ورغبته من النواحي، طبقا لنوع الحياة السابقة وطبيعة الأرض المعتادة لكل منهما: فأما العرب فكانوا يفضلون دائما البسائط والنواحي الدافئة في الجنوب والشرق والغرب، وأما البربر فكانوا في بلادهم يعيشون في بلاد جبلية عالية، على الشاطئين الشمالي ( البحر المتوسط )، والغربي ( المحيط الأطلسي) ، فألفوا مثل هذه البلاد في الأندلس، فاستقروا فيها باختيارهم. ففي الجنوب مثلا استقر العرب في شذونة واستجة، واختار البربر منطقة رندة الجبلية فسكنوها، وسميت تاكرنا باسم بعض قبائلهم. وفي هذا يقول المقري: "وكان العرب والبربر كلما مر قوم منهم بموضع استحسنوه حطوا به ونزلوه قاطنين (إلى أن قال) "وأقام من آثر السكنى في مواضعهم التي كانوا قد اختطوها واستوطنوها[4]".

3- أن عرب الطالعة الأولى، أي طالعة موسى نصير سنة 93ه، كانوا دائما أحلافا للبربر، على الشآميين، الذين دخلوا الأندلس، فيما بعد وتحديدا سنة 123هـ، لأنهم تقاسموا معهم ما نزلوا به من البلاد، وما فتحوه من الأرض، وساءهم جميعا – عربا وبربرا – أن يحاول الشآميون مشاركتهم في هذه الأراضي، التي فتحوها بأسيافهم، فصارت غنيمة لهم، فنفروا يدافعون عنها، واشتدت الخصومة بين الجانبين. وفي هذا يقول المقري، متحدثا عن تداعيات قتل العرب الشاميين للوالي عبد الملك بن قطن الفهري: وكان أمية وقطن أبناه، عندما خُلع قد هربا، وحشدا لطلب الثأر، واجتمع عليهما العرب الأقدمون والبربر[5]. ويقول ابن القوطية: وبقي عرب الأندلس وبربرها، يحاربون الأُمويين والشاميين، ويتعصبون لعبد الملك بن قطن الفهري، ويقولون لأهل الشام بلدنا يضيق بنا، فأخرجوا عنا، فكانت الحرب تدور بينهم في الكُدَى، أي الصحراء، التي بقبلي قرطبة[6]. وبقيت الحرب قائمة "بين الشاميين والأمويين، وبين البلديين والبربر "، حتى قدم أبو الخطار الكلبي: ونظر في إنزال الشاميين في كور الأندلس، وتفريقهم عن قرطبة.. وكان إنزالهم على أموال أهل الذمة من العجم، وبقي البلديون والبربر على غنائمهم، لم يتنقصهم شيئا[7].

4- أن جماعات بربرية كثيرة، كانت مستقرة في أخصب نواحي الأندلس، في الجنوب والشرق والغرب، بل كادت الجزيرة الخضراء، أن تكون مقصورة عليهم لكثرة من نزلها من بطونهم وعشائرهم. ولو أننا وازنا بين ما أحتله العرب وما احتله البربر، لوجدنا الكفتين متعادلتين تقريبا.

وأما ثورة البربر في الأندلس، فقد كانت امتدادا لثورة خوارج البربر في المغرب، والتي كانت بدورها امتدادا لثورة الخوارج في المشرق، ومعروف أن أهم أسباب هذه الثورة هو الغلو في الدين. وقد أوضحنا حقيقة ثورة الخوارج في المغرب وتداعياتها في مقال سابق[8].

الدين[عدل]

النصارى[عدل]

غلب مبدأ حرية العقيدة على حكام المسلمين في الأندلس، وكان لنصارى الأندلس مطران مركزه طليطلة ومحل إقامته قرطبة، وتركوا لهم أغلب كنائسهم وأديرتهم، وحرية الاحتكام إلى شريعتهم وقوانينهم، والاحتفال بأعيادهم ومواسمهم، وإقامة علاقاتهم الاجتماعية بحسب أعرافهم القديمة، واحتفظ الذين يملكون منهم أراضي تزرع بملكية أرضهم مقابل مقدار معين من الخراج بحسب طيب الأرض وغلتها؛ وذلك وفقًا لعهد المصالحة بينهم وبين المسلمين، وطبقًا لشروط معينة منها الالتزام بدفع الجزية وبأحكام أهل الذمة وعدم منع أي نصراني يريد الدخول في الإسلام.

ولما كان النصارى يشكلون أقليات كبيرة ضمن المجتمع الإسلامي، في القواعد الأندلسية الكبرى مثل قرطبة وإشبيلية وطليطلة وسرقسطة وبلنسية، فقد أنشأت الحكومة الأندلسية منذ الفتح منصب «القومس»(comes) [1]، ليكون هذا القومس مرجعهم الرئيس في شؤونهم الروحية، وللإشراف على النظام والسكينة، ولجمع ما هو مقرر عليهم من جزية وخراج، وكانت الحكومة الإسلامية تترك لهم في معظم الأحوال المجال لاختيار هؤلاء القوامس. وكان القومس يمارس سلطات مأمور الشرطة على طائفته، وكان يناط به جباية الضرائب، مسؤولًا عنها، يعاونه قاضٍ خاص هو «قاضي العجم»، أو الرقيب عليهم، يفض المنازعات التي تنشب بين النصارى. وكان القومس في كل مدينة من المدن من الشخصيات ذات النفوذ، ومن أهل الحنكة والدهاء والمداراة والمعرفة بالجباية، وكان له في معظم الأحيان مكانة خاصة لدى الأمير أو الخليفة، إذ كان مستشاره في كل ما يتعلق بشؤون النصارى وأحوالهم، كما فعل أرطباس بن غيطشة عندما أشار على أبي الخطار الحسام بن ضرار الكلبي، أمير الأندلس، بتفريق الشاميين عن دار الإمارة قرطبة وإنزالهم في الكور[2].

ولذا فقد اطمأن السكان الأصليون لحكامهم الجدد، وانكسر حاجز الخوف من نفوسهم، منذ ولاية عبد العزيز بن موسى بن نصير (95-97هـ). والولاة الذين أتوا بعد عبدالعزيز، أمثال السمح بن مالك الخولاني (100-102هـ)، وعنبسة بن سحيم الكلبي (103-107هـ)، وعبد الرحمن الغافقي (112-114هـ)، وعقبة بن الحجاج السلولي (116-123هـ)، وغيرهم من الولاة انتهجوا سياسته المتسامحة نفسها إزاء النصارى، وكان هذا أيضًا هو نهج ملوك بني أمية وديدنهم في عهدي الإمارة والخلافة (138-399هـ). والأمثلة التي تدل على أن ولاة الأندلس وملوك بني أمية قد أحسنوا إلى النصارى ولم يسيئوا إليهم كثيرة معلومة وقد تحدثت عنها كتب التاريخ باستفاضة وأشاد بها المؤرخون الأوربيون أنفسهم[3].

وبسبب سياسة الحكام المتسامحة في الأندلس، ولاةً وأمراء وخلفاء، إلى جانب محاسن الإسلام نفسه نجد أن أكثرية سكان الأندلس من النصارى وغيرهم أقبلوا منذ سنوات الفتح الأولى على تقبل عقيدة الإسلام.

حطم المسلمون النظام الطبقي غير العادل الذي فرضه القوط عليهم، ولم يبقَ على عقيدته سوى قلةٍ من الكاثوليك، إلى جانب قلةٍ من اليهود، وحتى هؤلاء وأولئك لم يلبثوا أن استعربوا ثقافة ولسانًا وأسلوب حياة، بعد حقبة قليلة من الزمن.

فكرة الإجلاء المسلمين وشبهة رينو[عدل]

زعم المستشرق جوزيف رينو (1795-1867م) في كتابه «تاريخ غزوات العرب على فرنسا» الذي صدر بالفرنسية، أن الخليفة عمر بن عبد العزيز فكّر في إجلاء النصارى من إسبانيا وجنوب فرنسا إلى إفريقيا. ونقله إلى العربية شكيب أرسلان في كتابه «تاريخ غزوات العرب في فرنسا وإيطاليا وسويسرا وجزائر البحر المتوسط» وبعد أن نقل كلام رينو السابق، قال: هذا الرأي، في نقل مسيحيي إسبانيا وجنوب فرنسا إلى إفريقيا، لا نجد له أصلًا في المراجع العربية، ولسنا ندري من أين أتى به رينو. كما طعن محمد زيتون في هذه الحكاية لعدم استنادها إلى دليل عقلي أو تاريخي.

  • يذكر ابن عذاري أن عمر بن عبد العزيز كان رأيه نقل المسلمين من الأندلس وإخراجهم منها لانقطاعهم عن المسلمين واتصالهم بأعداء الله الكفار، فقيل له: إن الناس قد كثروا بها وانتشروا في أقطارها، فعدل عن رأيه ذلك.
  • وقال المقري نقلًا عن ابن حيان: وكان من رأيه، أي عمر بن عبدالعزيز، أن ينقل المسلمين عنها لانقطاعهم وبعدهم عن أهل كلمتهم (قال) وليت الله تعالى أبقاه حتى يفعل، فإن مصيرهم مع الكفار إلى بوار، إلا أن يستنقذهم الله تعالى برحمته[18].
  • وقال ابن القوطية: وكان عمر بن عبدالعزيز، رحمه الله، قد عهد إلى السمح بإجلاء المسلمين من الأندلس، إشفاقًا مما دخل عليهم، إذ خشي تغلب العدو عليهم، فكتب إليه السمح بن مالك، يعرفه بقوة الإسلام، وكثرة مدائنهم، وشرف معاقلهم»[19].

ففكرة الإجلاء ارتبطت بإجلاء المسلمين من الأندلس وليس النصارى كما زعم رينو، وهذا ما يؤكده مؤرخون آخرون مثل وصاحب الأخبار المجموعة[21]، وابن الأثير[22]، والرازي[23] وغيرهم.

فكرة إجلاء النصارى[عدل]

فكرة إجلاء النصارى من الأندلس قد طُرحت بالفعل، ونفذت جزئيًّا ولكن في وقتٍ متأخر، وتحديدًا في آخر حكم المرابطين للأندلس (479-541هـ)، وكانت الأندلس إذ ذاك قد تقلصت وصار أكثرها تحت سيطرة ممالك الشمال النصرانية، وكان النصارى بسبب دخولهم في الإسلام في القرون السابقة قد صاروا أقليات صغيرة في قواعد الأندلس الباقية في أيدي المسلمين بعد أن كانوا يشكلون أقليات كبيرة بها بعد الفتح. وعلى الرغم من الحقوق العديدة التي تمتعت بها تلك الأقليات في عهود الولاة والأمراء والخلفاء، فقد تنكرت لعهودها، ولم تدخر وسعًا في مناوأة الحكومة الإسلامية، وتدبير الدسائس ضدها، وكانت عضد الثورات المختلفة في المدن والمقاطعات الثائرة، ولاسيما طليطلة وما يجاورها من المدن القريبة من حدود النصارى[24]. وقد استفحل خطر هذه الجاليات النصرانية، بعد سقوط مدينة طليطلة بأيدي القشتاليين سنة 478هـ/ 1085م، واشتداد وطأتهم على المسلمين، في وقت بلغت الحركة الصليبية، التي انبعثت من وسط فرنسا ذروة تعصبها، وأخذ النفوذ الفرنسي بشتى صوره وأشكاله السياسية والثقافية والدينية يتغلغل في شمال إسبانيا باعثًا فيها روحًا صليبية جديدة ضد المسلمين على أيدي أسقف طليطلة وبعض القساوسة والرهبان الفرنسيين أتباع نظام كلونيCluny [25] الشهير في فرنسا، الذي تأسس سنة 910م، والذين استقروا في طليطلة. وثبت تواطؤ النصارى عامة مع إخوانهم نصارى الشمال في تلك الحرب الصليبية ضد المسلمين، وتحول العديد من منهم إلى جواسيس يعملون لحساب الممالك النصرانية في الشمال، التي ضرب بها المثل فقيل إنها أكثر تعصبًا للبابوية (الكاثوليكية) من البابا نفسه[26]. وقد كانوا لا يكتمون ترحيبهم بالغزوات النصرانية المتكررة على الأراضي الإسلامية، وكانوا بسبب معرفتهم العربية يقدّم بعضهم العون لجيوش الشمال[27]، كما كانوا يزودونهم بالأقوات والمؤمن عند حصارهم للمدن الإسلامية. وكل هذا وغيره أثار مسلمي الأندلس ضدهم، ودفع الفقهاء لتحريض حكومة المرابطين عليهم، وإصدار الفتاوى التي تقضي بتغريبهم، لوضع حد لخياناتهم ومكائدهم[28].

قال أحمد فكري، في سياق حديثه عن المعاهدين في قرطبة: كان هؤلاء المعاهدين يعيشون في أمان ويسر في قرطبة ولم يؤثر في مجرى حياتهم ما نسب إلى بعض رجال الدين منهم من التعصب وإثارة الفتن في عهدي الأمير عبد الرحمن الأوسط (208-238هـ) وابنه الأمير محمد (238-272هـ). وقد هاجر بعض هؤلاء المعاهدين في فترات متباعدة، وخاصة في القرنين الخامس والسادس (الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين) إلى مناطق شمال الجزيرة، وانضموا إلى أهل الممالك المسيحية، وظلوا يُعرفون فيها بالمستعربين، ويحافظون على تقاليدهم الأندلسية[29]. وقد بدأ المعاهدون يتنكرون لمواطنيهم العرب، منذ أيام الفتنة، وظهر خطرهم في بداية القرن السادس الهجري، وبخاصة بعد الحملة الكبيرة التي قام بها ملك أراغون ألفونسو الأول سنة 519-520/ 1125-1126م، على غرناطة[30]، استجابة لنداءات المستعربين الغرناطيين وتحريضاتهم، مما دفع، في سنة 520هـ (1126م)، أبا الوليد بن رشد (جد الفيلسوف الشهير)، قاضي الجماعة، إلى عبور المجاز والتوجه إلى مرّاكش ليشرح لأمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين (500-538هـ) خطر المعاهدين على المسلمين في الأندلس لنقضهم العهد، وخروجهم على الذمة، باستدعائهم نصارى الشمال ومساعدتهم، وقد أفتى ابن رشد بوجوب تغريبهم وإجلائهم عن أوطانهم، وهو أخف ما يؤخذ به من عقابهم، وأخذ أمير المسلمين بهذه الفتوى، وأمر بتغريب المعاهدين، وبادر ولاة الأندلس بتهجيرهم إلى بلاد العدوة، أي المغرب، فتم تهجير جم غفير منهم، بعد أن قُتل عدد منهم. كما قامت القوات الأرغونية الغازية، التابعة لألفونسو الأول، ذاتها بإجلاء عدة آلاف منهم واصطحبتهم برفقتها. وتكرر إجلاء مماثل لهم سنة 531هـ و559هـ، حتى قل عددهم كثيرًا في مدن الأندلس نتيجة لذلك ونتيجة الهجرة أيضًا إلى المدن النصرانية[31]. ولكن جهودهم كانت على أي حال من أهم العوامل في إضعاف الحكومة الإسلامية، وفي تعضيد جهود إسبانيا النصرانية لاسترداد أراضيها المفتوحة من المسلمين. وهذا ما يعتبره المؤرخون الإسبان من وجهة نظرهم أعمال بطولة، ولهذا يخصص العلماء الإسبان لتاريخ النصارى المعاهدين مصنفات وبحوثًا كثيرة[32].

وقد تحامل المستشرق الهولندي رينهرت دوزي عند تناوله لهذا الموضوع على المرابطين أشدّ التحامل، فجردهم من كل مكرمة وألصق بهم كل صفة بغيضة، ومن ذلك اتهامهم بالجهل والوحشية والقضاء على العلم والحضارة في الأندلس، وتطرق إلى هذه القصة بشكل مختلف، فقد أرجعها إلى موقف المرابطين المتعنت تجاه المستعربين، وإسرافهم في اضطهادهم[33]، متغافلًا عن خيانة أولئك النصارى للمسلمين ونقضهم للعهود والمواثيق.

السقوط[عدل]

ويمكن إجمال أهم سنن سقوط الأندلس فيما يلي:

 حب الدنيا وكراهية الموت:

النصر الذي حققه طارق وبعده يوسف بن تاشفين وغيرهما - رحمهم الله -، لم يحافظ عليه الذين ملكت شهوة الحكم عليهم كيانهم، وصارت أغلى أمانيهم، ولو قدموا شعوبهم وأرضهم فداء لها.

كان الاستغراق في الترف والتبذير والركون إلى الدنيا وملذاتها وشهواتها ومغرياتها، والخنوع والدعة والميوعة، والفسق والفجور وحب الدنيا وشهوة السلطة؛ أول العوامل التي أدَّت إلى تلك النهاية المؤلمة للأندلس - بلاد العلم والفقه والحضارة -، ولآخر معاقلها “غرناطة”، وقد ارتبطت كثيراً فترات الهبوط والسقوط بكثرة الأموال والانغماس في الملذات، والميوعة الشديدة في شباب الأمة، والانحطاط الكبير في الأهداف.

ابتليت الأمة المسلمة في الأندلس بالوهن، وكان سبباً في سقوط حضارة واندثار تاريخ أزيد من ثمانية قرون، وتحولت تلك الحضارة إلى لعبة في يد الفرنجة يعبثون بها ويمحون آثارها.

ولهذا جمع الله لنا في سياق آية من سورة آل عمران أربعة أمراض وأدواء مترابطة بعضها يغذي بعض؛ مما يكون سبباً للهزيمة والوبال، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152].

هذه الأمراض كما هي مذكورة في الآية هي:

أولاً: الفشل (فشل الأمير أبو عبد الملك الصغير ثم فشل بفشله جنده ومن معه).

ثانياً: التنازع في الأمر (تنازع ملوك الطوائف على السلطة والإمارة فقسموا الأندلس قطعاً).

ثالثاً: العصيان (عصيان أوامر الله تعالى ورسوله الذي أمر بالوحدة والاعتصام بحبله والجهاد لحماية ثغور الأمة، والشورى).

رابعاً: حب الدنيا؛ أصل البلاء ومناطه، وسبب كل خطيئة (لقد كان هم أمراء الأندلس الحفاظ على كراسيهم وسلطتهم ولو قدموا أعناق شعبهم وأراضيهم ثمناً لذلك).

فلما توافرت هذه الأمراض في الأندلس، كانت الهزيمة والسقوط، وفقدنا خير البلاد المسلمة في العالم.


توحد الأعداء وتمزق المسلمين صفاً وقلوباً:

كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى

خطب ولا تتفرقوا أفراداً

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً

وإذا افترقن تكسرت آحاداً

أمراء الأندلس تمزقوا شيعاً، وتقطعوا زُبراً، وتعمق الخلاف بينهم، وعاشت الأندلس بعد نهاية الدولة العامرية في تمزق وتشتت، وتحولت إلى ممالك وإمارات وصلت إلى 22 إمارة، كل واحدة مستقلة عن الأخرى، وأصبحت فيما يسمى ”ملوك الطوائف”، واتسع شرخ الخلاف والفرقة بينهم، بل استعان بعضهم بالأعداء في الصراع مع إخوانه، وقدم تنازلات من حصون ومدن لعدوه شريطة التغلب على إخوانه، فباع أرضه وخان أمته ووطنه؛ فأضاعوا بلادهم، وأهلكوا أمتهم، وكانوا السبب فيما حل بها من الفتك والقتل والاستعباد والطرد والقتل بأبشع الوسائل الهمجية والوحشية.

كان إسناد الأمر إلى غير أهله أحد عوامل سقوط الأندلس، وكان ذلك واضحاً، خاصة في ولاية هشام بن الحكم، وولاية الناصر بعد أبيه يعقوب المنصور الموحدي، وأيضاً ولاية جميع أبناء الأحمر حتى آخر ملك منهم، وأبو عبد الملك الصغير.

مما يزهدني في أرض أندلس

ألقاب معتمد فيها ومعتضد

ألقاب مملكة في غير موضعها

كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

انتشر الجهل بالدين بين الناس في نهاية عهد المرابطين، وفي عهد دولة الموحدين، وسادت بين الناس معتقدات غريبة وآراء عجيبة تدل على الجهل المطبق بالدين وأحكامه ومبادئه وتعاليمه. وخير مثل على هذا الجهل ما كان من غزو محمد بن الأحمر الأول لإشبيلية، وقد تبعه الناس في ذلك ظناً منهم أنهم على صواب، وأنهم أصحاب رسالة وفضيلة.

وضاعت حضارة الأندلس من يدي المُسْلِمِين عندما كان نشيدهم:

دوزن العود وهات القدحا

راقت الخمرة والورد صحا

وعندما قصد الإفرنج بلنسية لغزوها عام 456هـ، خرج أهلها للقائهم بثياب الزينة، فكانت وقعة بطرنة التي قال فيها الشاعر أبو إسحاق بن معلي:

لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم

حُلَلَ الحرير عليكم ألواناً

ما كان أقبحهم وأحسنكم بها

لو لم يكن ببطرنة ما كانا

الفشل والهزيمة المعنوية: لما أعلن الملك الصغير أمام جنده وحاشيته ووزرائه أنه يفكر في الاستسلام، زادهم فشلاً على فشل وهزيمة على هزيمة، ووافقوه على الاستسلام – إلا وزيره موسى أبى الاستسلام - للعدو الفرنجي وتقديم مفاتيح آخر قلعة من قلاع الأندلس على طبق من ذهب للعدو الغاصب.

الغفلة عن الله: ولا أدل من غفلة أهل الأندلس عن الله والدار الآخرة في انشغالهم بعمارة القصور والتفنن في زخرفتها وبنائها والتنافس فيها، وأشعار الغزل والرقص والترف والتبذير والمجون.

حب الرئاسة: انقسموا إلى طوائف وتفرَّقوا شذَرَ مذَرَ في بلاد الأندلس، ففتك بهم عدوهم بما تشق له المرائر، وتفتت الأكبدة، وتقشعر من هوله الجلود والأبدان.

الظلم: ملوك الطوائف اجتمعت فيهم كل أنواع الظلم؛ ظلموا أنفسهم لما غرقوا في حب الدنيا وملذاتها وشهواتها، وظلموا ما بينهم وبين ربهم لما تقاعسوا وتقاعدوا عما افترضه عليهم من فرائض وأوجبه من واجبات وحرمه من محرمات وفواحش وبخل وتبذير، وظلموا رعيتهم في الأرزاق وفي الحماية والدفاع عنها، وخانوا أرضهم لما قدّموها سهلة لعدوهم، وظلموا الأجيال قبلهم لما أضاعوا ما شيدوه وبنوه على مدار 800 عام، وظلموا الأجيال بعدهم لما لم يحافظوا على الأمانة ولم يؤدوها إلى أهلها.

التخاذل والنفاق والخيانة: دعا الإمام أبو الوليد الباجي – رحمه الله - ملوك الطوائف إلى الوحدة لمواجهة الخطر النصراني الذي يهدد وجود المسلمين في الأندلس، لكنهم رغم ترحيبهم به وبدعوته تخاذلوا عن الدفاع عن حمى المسلمين؛ لأن حب الدنيا الذي تربع على عرش قلوبهم أصماهم وأعمى أبصارهم، وزادت النزاعات بينهم حتى وصلت إلى القتال، ما دفع بأعدائهم للتجرؤ عليهم واستباحة أراضيهم وأعراضهم، فهاجم “فردلند” مدينة بازو فقتل أهلها وانتهك أعراضها وأخذ الباقي أسرى في سنة 449هـ.

ولما راسل المظفر بالله أخاه المؤيد بالله، بل أرسل إلى كل دويلات الأندلس يطلب المدد وفك الحصار عن المسلمين، لم يجبه أحد، بل دل أحد الخائنين العدو الفرنسي على مصدر الماء الذي يروي عطش المسلمين فقطعوه عنهم فاشتد العطش بهم، فاقتحم الفرنسيون الكاثوليك والنورمان النصارى مدينة “بربشتر” فاستباحوها وقتلوا بين 40 ألفاً و100 ألف من أهلها، وهتكوا الأعراض أمام محارمها وأهلها، وأصبح كل أهل المدينة عبيداً للمحتل بعدها.

ثم جاء دور ما تبقى من حصون الأندلس؛ جاء دور غرناطة، وجمع فرديناند جموعه للتوجه نحو غرناطة، فظهرت خيانة جديدة من أبي عبد الله محمد الثالث عشر المعروف بـ ”الزغل” لابن أخيه الملك أبي عبد الله الصغير طمعاً في الملك، فكان سبباً في إضعاف المملكة وجعلها فريسة لمملكتي قشتالة وأرجون. لكن جرت الرياح بما لم تشتهه السفن، فأهل غرناطة له كارهون وباسم ابن أخيه يهتفون، فما كان منه إلا أن أخذ أمواله وحشمه وخدمه متوجهاً إلى المغرب ليعيش عيشة هنية بما أخذه معه من مال وجوار وخدم، لكن حاكم فاس سرعان ما ألقى القبض عليه وجرده من كل ما يملك، فسملت عيناه وألقي به في السجن ثم أطلق سراحه بعد ذلك، فعاش متسولاً منبوذاً حتى مات. واشتد الحصار على غرناطة واستسلم الملك الصغير ومن معه من قادة الجيش وعلماء السوء إلا وزيره موسى الشهم. فكان استشهاد موسى بن أبي غسان وتسليم الملك الصغير غرناطة للملكين “فرناندو الخامس” و”إيزابيلا” إيذاناً بانتهاء عصر حكم المسلمين في غرناطة، وبسقوطها ينتهي حكم المسلمين بالأندلس.

أعطى أبو عبد الله محمد الثاني عشر الموافقة بالتسليم، ولم ينسَ أن يرسل إليهما بعضاً من الهدايا الخاصة، وبعد التسليم بأيام يدخل الملكان في خيلاء قصر الحمراء الكبير ومعهما الرهبان، وفي أول عمل رسمي يقومون بتعليق صليب فضي كبير فوق برج القصر الأعلى، ويُعلن من فوق هذا البرج أن غرناطة أصبحت تابعة للملكين الكاثوليكيين، وأن حكم المسلمين قد انتهى من بلاد الأندلس. خرج آخر ملوك المسلمين أبو عبد الله محمد بن الأحمر الصغير من القصر الملكي في نكسة كبيرة وفي ذل وصغار، يسير بعيداً في اتجاه بلدة “أندرش”، حتى وصل إلى ربوة عالية تُطل على قصر الحمراء يتطلع منها إليه، وإلى ذاك المجد الذي قد ولَّى، وبحزن وأسى قد تبدّى عليه لم يستطع فيه الصغير أن يتمالك نفسه، انطلق يبكي حتى بللت دموعه لحيته، حتى قالت له أمه «عائشة الحرة»: أجل؛ فلتبكِ كالنساء مُلْكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال. وإلى هذه اللحظة ما زال هذا التل - الذي وقف عليه الصغير - في إسبانيا، وما زال الناس يذهبون إليه يتأمَّلون موضع هذا المَلِك الذي أضاع مُلكاً أسسه الأجداد، ويُعرف (هذا التل) بـ «زفرة العربي الأخيرة»، وهو بكاء أبي عبد الله محمد الصغير حين ترك ملكه.

ومن أخذ البلاد بغير جهد

يهون عليه تسليم البلاد

فكان سقوط الأندلس في الثاني من شهر ربيع الأول سنة 897هـ = 2 من يناير سنة 1492م.

وهاجر بعدها أبو عبد الله الصغير إلى بلاد المغرب الأقصى، واستقر بفاس، وبنى بها قصوراً على طراز الأندلس، وكانت ذريته بعده يعدون من جملة الشحاذين.[7].