انتقل إلى المحتوى

مستخدم:مانع النفيعي/ملعب

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

قالب:عبدالله خليفة عبدالله خليفة في روايته الجديدة ... التماثيل يرثي الأزمنة المتلاشية في لغة تفاعلية بين الفكرة والصورة، وبين الصوت السياسي الاجتماعي، والتأليف الجمالي الشعري، يسعى الكاتب البحريني عبدالله خليفة لإرساء بناء روائي لا ينقطع عن إحالاته الواقعية والتاريخية، ومرجعيته الإيديولوجية. فمناط الكاتب في روايته الجديدة «التماثيل» (الدار العربية للعلوم - ناشرون ومنشورات الاختلاف) كما فيما سلف من قصصه ورواياته ودراساته النقدية والفكرية، قضايا اجتماعية وفكرية، ينطلق منها لكشف مرتكزات وأشكال الاستغلال الاقتصادي والزيف السياسي، ومرد التلوث الأخلاقي والسلطوي، والإضاءة على عالم المفارقات والتحولات. وتتراوح رواية عبدالله خليفة بين استرجاعات فردية وجماعية، واستدماجات واقعية وحلمية. وتنفتح على اليومي والمعيوش، كما على التاريخي والأسطوري. كذلك يتداخل المونولوغ مع الديالوغ. أو بعبارة أخرى، يتحول الديالوغ في الغالب إلى مونولوغ. ليشكل بؤرة ذاتية وشعورية ومتفجرة، تتكون من خلالها لغة وجدانية شاعرية، وهذائية في احيان كثيرة. وهذا التداخل يلائم وضعية بطله «حسان» المتوحد والمتوتر والمفجوع بعالم يتداعى امام ناظريه، وتتراخى فيه التقاليد والأعراف والسنن. وتنبثق عن هذا الانهيار ظواهر وسلوكيات اجتماعية وأوضاع سياسية متردية، تنعكس على عقله ووجدانه. فلا يرى مناصاً من رثاء زمنه الضائع، والتشبث بأطيافه المتراجعة. ويزداد هذا الخلط بين ما يصدر عن الذات وما يصدر عن الآخر، في الفصول الأخيرة من الرواية. حيث يقبع البطل في الزنازين وأقبية التعذيب، فتتشكل في عالمه المنعزل أصداء مبهمة، وترجيعات صوتية مجهولة المصدر، وأخرى مهلوسة غامضة. وهو منذ البداية غارق في عزلته، يكتنفه هذا الشعور الدائم بضيق الأمكنة. فالمكتب في المحكمة التي يعمل فيها «تابوت حجري» والوظيفة الثانية في المصرف «زنزانة» أو «قفص». وكل ما يراه «جدران تتكاثر حوله». وجميعها دلالات بيّنة على شعور متفاقم بالاستلاب والقهر والعجز. وداخل زنازينه المتعددة يجترّ حسان زمناً بدأ يذوي ويضمحل، في حين ان العالم خارجه ينمو ويتسع. وعندما يخرج من السجن بين فترة وأخرى، تصدمه هذه التحولات في البناء والنفوس والعقول. «هياكل البيوت القديمة تتحول في غمضة عين إلى متاجر أنيقة، أسير غريباً، أحاول أن أجد وجهاً قديماً فلا يظهر». واسترداد الزمن الفردوسي المتلاشي موضوع أثير لدى القاص خليفة. فهو سبق ان تناوله في العديد من أقاصيصه، حيث يصف في إحداها انهيار مخبز قديم وبعض البيوت القديمة المتاخمة له، وكيف أن بطله ثار حين وجد ان مخبزاً حديثاً أنشئ مكانه، وتشرد قاطنو البيوت المجاورة. وأن صاحب المخبز، تحول إلى بورجوازي يتوسط بين الرأسماليين ومستهلكي الطحين. في الرواية تزاحم بين زمن الماضي. زمن القيم الآفلة. زمن علي البحراني، الشخص الأثيري الخرافي الذي يحتل فضاء القصة، ويستولي على عقل حسان وذاكرته «الذي جاء من الصحراء، وأسّس مملكة العيون، فحفر الينابيع، وزرع البساتين، وكشف بحيرات اللآلئ في البحر». الجد الأسطوري الأولي المحضّر، على شاكلة أرباب الحضارات القديمة والسحيقة الذين يعلّمون اصول المهن والأعمال، واستخراج الثروات. وزمن آخر هو زمن الحاضر المؤرق. زمن الرهانات على الثروة والمتعة المتوهجة والسلطة. زمن تمثله الشخصية الانتهازية الماكرة والمخادعة، مثل ياسين، التي أفرزتها الطبقة المحدثة النعمة. الطبقة الجديدة الطفيلية التي تخرب الأجساد والأرواح. وبقدر ما يمثل حسان نزوعاً نوستالجياً إلى الماضي، فإن ياسين يقتحم الحاضر، ويصبو إلى الثروة والوجاهة. بيد ان بين هاتين الشخصيتين ازدواجية وتكاملاً في آن واحد. فلا يمكن ان يُرى أحدهما دون الآخر. الاثنان يتعالقان ويتنافران، ويتصالحان. مثل دكتور جيكل ومستر هايد. الوجه النهائي والوجه الليلي. العقل الواعي والعقل الباطن: «كان (ياسين) يتقدم في المسرح المضاء... كنت (حسان) في هوة الظلام، كان يُقلد نياشين، وكان الرجال يحيطون بي، ويطفئون سجائرهم في جسدي». وإذ يذهل حسان، حين خروجه من السجن، لرؤية هذه العمارات الضخمة والفنادق والمتاجر المتكاثرة كالرمل. ويستنكر الفساد الذي ينخر في الدوائر الحكومية، ومخادعة الصحافة واستخفافها بعقول قرائها. ويعجب من تدافع الناس نحو المحلات لشراء السلع من كل صنف، واقتصار أحاديثهم على النقود والتجارة. فإن صنوه ياسين يرتقي بسرعة قياسية درجات السلم الاجتماعي والمادي، ويسرق الأضواء. ولا يراعي عرفاً أو قيمة، ولا يقر بمحرمات أو موانع اخلاقية. وفي عرسه يجمع المتناقضات فيحضر رجال الثورة إلى جانب رجال الثروة. وتظهر العباءات وبنطلونات الجينز، والنسوة المتحجبات والشابات السافرات. ويتلاصق الحزبيون والمخبرون والمومسات! بيد ان ما يلتقطه قارئ «التماثيل» من أحداث الرواية، ليس سوى وقائع تتجمع وتتناثر، وتتكون ثم تتلاشى، تومض حيناً وتخبو احياناً. وتدور بين شخصيات غير محددة، هلامية الطباع والسمات في معظم الأحيان، أو متناقضة السلوك، احياناً أخرى. فعلي البحراني وليد الحكايات الملفّقة والمختلقة. وياسين لا تتشكل صورته على سوية واحدة، وإن غلبت عليه ملامح الانتهازية. فهو يتأرجح بين الشاعر الهاذي، والمناضل صاحب الرسالة التي جاءته من العالم النوراني، لينقذ الدنيا من الشرور. وهو في أوقات أخرى شخصية نزقة وماجنة وفوضوية. أما حسان فهو الآخر، إلى طهارته المزعومة، يتماهى بياسين فيندفع إلى ملذاته، وإلى خرق المحرمات، والانتقام من صديقه، حينما يغري زوجته نرجس، أثناء غياب زوجها في السجن. وبين حسان وعلي ابنه المفترض من نرجس، تتفاعل قضية الانتماء والهوية. ويجري البحث عن هويتي الأب والابن. الماضي والحاضر. هوية ملتبسة تربط حسان بعائلة ياسين. فابنة ياسين الطفلة ندى التي رباها حسان في صغرها تغدو زوجته في ما بعد. وابنه علي يحمل اسم الأب ياسين. هوية لا تحدد العلاقات، ولا تعرّف، ولا تشير إلى الروابط الواضحة. انما تصنع الأشراك والأحابيل. فندى زوجة ولا زوجة. وعلي ابن ولا ابن! وحسان في منزله الأبوي ينازع شقيقه الأصولي تربية إخوته وأخواته «ربانان في مركب واحد». أحدهما يدعو إلى الأخلاقية الليبرالية. والثاني إلى الأخلاقية المتزمتة. لكن ما يلبث ان يخفق الاثنان في توجيههما التربوي. فينقلب الجميع على ما تعلموه، وينجرفون في تيار الحياة الأقوى. تيار الانفتاح والمفارقات والمال. وتجنح العائلة إلى السلوكيات الشائنة. فأسعد الأخ رئيس جماعة متعصبة، وسعاد الأخت صاحبة ملهى ليلي. وآخرون بين الخمر والحشيش والقمار. بل ان الأب نفسه مقاول الحج والعمرة والعتبات المقدسة، ينحرف في نهاية المطاف فيرتاد الحانات والخمارات. قصة خليفة مرثية زمن فردوسي ماضوي. يمثله في الرواية تنافس جميع الشخصيات للحصول على التماثيل. الرأسمال الرمزي والتاريخي للبلد. إلا ان هذا الرأسمال سرعان ما يتبدد بين أيدي المتنازعين. وهم أفراد الطبقة البورجوازية الطفيلية، من طرف. ومن طرف آخر، المتدينون المتعصبون الجدد الذين يلقون القبض على حسان ليدلهم على موقع التماثيل لكن من دون جدوى. وهي تماثيل لا نعرف إن كانت موجودة حقاً. أم هي من صنع مخيلة بطل خليفة، المهلوس الخائف من العبث بهذا الكنز الروحي والحضاري. ومن زوال الماضي، وانحسار الحياة الفردوسية. وبطل الرواية تغذيه ريبة تفاقم من احساسه بالعزلة، وشعوره باضطهاد الآخرين له. وخصوصاً وهو ينتقل من زنزانة إلى أخرى، ويتعرض للضرب والتعذيب. ريبية سوداوية «كافكاوية» لا تختلف أجواؤها عن أجواء بطل كافكا في «المحاكمة» حيث يقاد حسان مثله إلى التحقيق من دون معرفة السبب. وإن كان المعلن أن منشورات دُسّت في حقيبته. فلا يدري حسان إن كان نائماً حينها أم يقظاً. أو كان أخوته أو ياسين أو زوجة ياسين من دس الأوراق. بل لا نعلم نحن القراء، إن كان القضاة في هذه المحكمة بل المحاكمات العبثية التي يتعرض فيها بطل خليفة للمساءلة والمحاسبة، قضاة حقيقيين، أم انهم ينبثقون من ثقوب الذاكرة المنهكة، أو ينفذون من بين الإضبارات والأوراق. «أنا الآن في أرشيف المحكمة، أبحث عن اسمي. أقنعة ضخمة على الكراسي تستجوبني، ثم أُدهس ويتم تحويلي إلى ملف... فارغ». هذه الارتيابية، والالتباس بين ذنبه المفترض وبراءته، وسوء فهم الآخرين له، والتي تشعره بأنه ضحية الأخطاء التراجيدية، تنسحب ايضاً عليه وقت احتجاز الشرطة له، بعد ان وقع بين ايدي جماعة إرهابية أصولية، فعدّته الشرطة من قادتها. وحينما أراد تبرئة نفسه من هذه التهمة. حدّق فيه الضابط ساخراً وقال: نم الآن. أنت متعب! ونشرت الصحف في اليوم التالي الخبر على صفحاتها الأولى: اعتقال زعيم الإرهابيين! في هذه الأجواء العبثية السوداوية التي تؤشر للضياع والنضوب الفكري والروحي، يشكل الروائي بلغته الشعرية المتوترة، خلفية وصفية قاتمة سوريالية الخطوط والألوان، تحيط بفضاء بطل الرواية المحبط والمسحوق والمغلول «وجهي مفتت، هناك جبل مهشم في الشمال... وهناك واد سحيق في الجنوب فيه مستنقعات وزيت يشتعل وأطفال غرقى، ولا تزال صرخاتهم تتموج في الهواء».