مستخدم:Ghe2021lan/ملعب
أدى تنوع مكونات عمان الجغرافية بين بحار وجبال وأودية وصحاري إلى تعدد أنماط ثقافة هذا المجتمع وملامحه الاجتماعية، إذ نجد أن سكان المناطق الساحلية ألفوا ركوب البحر واكتشاف مكنوناته، في حين ارتبط سكان المدن و الأرياف بالأرض فعملوا بالتجارة والزراعة والحرف المرتبطة بهما، واعتاد البدو على التنقل والترحال بحثا عن العشب والكلأ. ولذلك أتاحت هذه البيئات الفرصة لتنوع أنماط الحياة الاجتماعية واكتسابها عدة سمات من أبرزها الشجاعة وحب المغامرة وتقبل الآخرين والتسامح وغيرها. وفي ظل عدم وجود إحصائيات لعدد السكان في تلك الفترة فإن العدد التقريبي لسكان عمان في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر الميلادي لم يتجاوز نصف مليون نسمة.
شهدت مسقط والمناطق الساحلية مجموعات أتت من أقطار مختلفة منها من جاء من بوشهر وبندر عباس ولارستان ببلاد فارس، وكان هؤلاء يعملون بالتجارة والصناعات الحرفية كصناعة الخناجر والسيوف، وكذلك في صناعة البنادق ذات الفتيل الواحد التي تجد في عمان الداخلية رواجا كبيرا . وإلى جانبهم وجد مجموعة من الأفغان الذين اتخذوا مسقط وبعض المدن الساحلية العمانية محطة يستريحون فيها في طريقهم لأداء مناسك الحج والعمرة في مكة المكرمة، حيث يسلكون الطريق البحري المؤدي إلى باب المندب ومنه إلى منطقة الحجاز. و زاول بعضهم التجارة مستفيدين من المناخ التجاري الجيد والحوافز التي هيئتها إدارة مسقط والموانيء العمانية الأخرى، إضافة إلى عامل القرب المكاني بين بلادهم وعمان. وبالإضافة إلى الفرس والأفغان استوطن عمان مجموعات من الهنود الذين ينتمون إلى طوائف متباينة، فمنهم المسلمون ومنهم الهندوس ـ الذين يعرفون أيضا بالبانيان- وقدموا تحديدا من منطقة كوجرات على الساحل الغربي للهند، وكانوا يزاولون أنشطة تجارية متعددة منها الصرافة والتمويل المالي. وقد تزايد عددهم في مسقط من حوالي ألف نسمة في عام 1765 إلى حوالي 4 آلاف في عام 1810م. ومن مسلمي الهند وفد على مسقط من إمارة ميسور الذين كانت لهم علاقات صداقة وطيدة مع حكام عمان آنذاك. ومن الأقليات التي سكنت عمان مجموعات أتت من سواحل شرقي أفريقيا، ومن المعروف أن بعض الأسر العمانية مثل بني الجلندى والحرث والنباهنة هاجرت إلى هذه المنطقة واستقرت فيها لعدة قرون منذ القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، وخضعت أجزاء واسعة من تلك المنطقة لحكم اليعاربة منذ أواخر القرن السابع عشر، قبل أن يوسع البوسعيديون رقعة الحكم العماني هناك.
كان لهذا المزيج من الأعراق والأجناس والديانات والمذاهب المتعددة تأثيره السلبي والإيجابي على الحياة الاجتماعية في عمان، فمن تأثيره السلبي دخول بعض المفردات اللغوية غير العربية، وظهور بوادر الخلل في التركيب السكاني في مسقط تحديدا، ومشاركة بعض الوافدين في الحروب الداخلية بين الزعماء المحليين المتنافسين. أما الجوانب الإيجابية فمنها تعزيز حالة التسامح مع تلك الأجناس، والإفادة من خبراتهم في الأعمال التي كانوا يمارسونها.
إن الخصائص العامة لتوزيع السكان في عمان في الفترة محل الدراسة بقيت تقليدية، ولم تتعرض لتغيرات جوهرية طيلة قرون، فقد ظلت التجمعات السكنية تتخذ تشكيلات ترتبط بظروفها المناخية ومواردها المائية وإمكانياتها الاقتصادية. وكانت الصورة العامة لها لا تعدو أن تكون تجمعات سكنية ثابتة أو موسمية أو متحركة، وذلك بحسب توفر الموارد المائية والاقتصادية، مع ملاحظة أن الصراعات القبلية التي اتسمت بها تلك الفترة كانت من ضمن العوامل التي أثرت على توزيع مراكز الاستقرار البشري في عمان.
دور القبيلة في الحياة الاجتماعية:
تعتبر القبيلة في عمان الركيزة الأساسية والمحور الذي تدور حوله الحياة الاجتماعية، فمنذ استقرار القبائل العربية فيها، والهجرات التي وفدت إليها منذ الألف الأولى قبل الميلاد سيطرت القبيلة على الحياة السياسية والاجتماعية. وفي الفترة الزمنية الخاضعة للدراسة اشتملت عمان على أكثر من مائة قبيلة رئيسية ينطوي تحت لوائها عدد كبير من القبائل الفرعية التي تنتمي إلى الفرعين الشهيرين: العدنانية التي قدمت من شمال شبه الجزيرة العربية، والقحطانية التي قدمت من جنوب شبة الجزيرة.
قامت الحياة الاجتماعية للقبائل في عمان على أسس من التعاون والتآزر لا سيما مع ظهور الإسلام الذي دعم تلك الأسس وزادها قوة، إلا أن الصراع بينها كان واردا في ظل الرغبة في الاستئثار بالمناطق الغنية بالمياه آنذاك، أما الصراع الذي نشب في أواخر عهد دولة اليعاربة ـ والذي قسم القبائل العمانية إلى قسمين بين الغافرية و الهناوية واستمر أكثر من قرن من الزمان ـ فإنه يعود لدوافع سياسية محضة. ولقد تعددت أنماط الحياة الاجتماعية التي عاشتها القبائل العمانية فالبعض منها ظل يعيش حياة البداوة، والبعض الآخر استقر في المناطق الحضرية معتمدا على الزراعة في القرى والواحات حيث تتوفر المياه إلى جانب الاعتماد على صيد الأسماك، بالاضافة إلى امتهان التجارة والحرف في المدن، وجمع البعض بين حياة البداوة وحياة الاستقرار كالشواوي الذين عاشوا على الرعي في مناطق المرتفعات وعلى سفوحها.
لقد وجدت أنماط اجتماعية واقتصادية متعددة لحياة القبائل في عمان. ومهما يكن نمط تلك الحياة فإن القبيلة باعتبارها محور الحياة الاجتماعية كانت تؤدي وظائف مهمة، فقد كان شيخ القبيلة بمثابة السلطة العليا في القرية، يقوم على إدارة شؤون المجتمع، و حل ما يظهر من خلافات بين المواطنين. وكانت مجالس الشيوخ عبارة عن أجهزة للإدارة المحلية، وهي مسؤولة عن استقرار الأمن وحفظ النظام، وتنظيم العمل الجماعي، ورعاية الاحتفالات الدينية والشعبية في المناسبات المختلفة.
كان للقبائل الكبرى ما يسمى بالتميمة (وهو الشيخ الأكبر الذي تنتهي إليه المسؤولية النهائية، ويتبعه عدة شيوخ يتزعمون أفخاذ القبيلة وفروعها)، وتنتقل مشيخة القبائل عادة بالوراثة، حيث تعطى للإبن الأكبر، وقد ذكر مايلز المعتمد البريطاني في مسقط أنه شاهد صبيا يتراوح عمره ما بين الثانية عشرة و الرابعة عشرة أصبح شيخا لقبيلته بعد وفاة والده، وكان رجال القبيلة يظهرون له الاحترام والولاء التام ، ويستند الشيخ في عملية إدارة القبيلة وتسييرها على الأعراف والتقاليد المتعارف عليها، وكلما وضع الشيخ تلك الأعراف نصب عينيه ومزج بين اللين والحزم في قراراته وأسلوب تعامله مع مواطنيه كلما أطاعه أتباعه. وتبرز حاجة الدولة لشيخ القبيلة في حالة تعرضها لاعتداء خارجي، إذ لم يكن هناك ما يسمى بالجيش النظامي، وإنما يقوم الإمام أو السلطان باستنفار القبائل للحرب . كما تبرز أهمية الشيوخ عند قيامهم بالصلح بين القبائل التي كثيرا ما تشغل نفسها بالصراعات الداخلية. ونظرا للأدوار المهمة والمتعددة التي يقوم بها شيوخ القبائل فإن مواردهم المالية لا تقتصر على المساهمات المادية والعينية التي يؤديها إليهم مواطنوهم، بل توفرت لهم ممتلكات خاصة كالإبل والسفن والتجارة والأراضي الزراعية، بالإضافة إلى هبات الحكام. وعموما فإن قبائل المنطقة غالبا ما دعمت الاستقرار السياسي والاجتماعي في عمان، إلا أن هذا الواقع يجب ألا يخفي واقعا آخر على النقيض منه، ذلك أن الخلافات القبلية وظهور شيوخ مستبدين في غياب نظام سياسي قوي أدى في فترات تاريخية معينة إلى زعزعة الاستقرار والتسبب في الكوارث والمآسي، ومن الأمثلة الشاهدة على ذلك الانقسام المرير الذي حدث بين الهناوية والغافرية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، وما خلفه من خراب.
المرجع:
جريدة الرؤية : الدكتور صالح عامر الخروصي