مستخدم:Saber Gouiez/أدواتي
في سنة 1830 نزلت حملة فرنسية على مدينة الجزائر وقضت بسرعة على النظام التركي الذي احتل هذا الجزء من المغرب أكثر من ثلاثة قرون. وأن أصول الحكومة التركية منسوجة من الأسطورة والخيال اللذين تتخللهما حقائق مشتتة. ولكن هذا الجزء الوسطي من المغرب له تاريخ طويل قبل أن يصله الأتراك، الفنيقيون والرومان والقوطيون والبزنطيون والعرب، غزاة ومحتلين وحكاما، بالاضافة إلى حركات ضخمة للقبائل الرحل التي تعيش على أطراف الصحراء - فكل هؤلاء قد اسهوا في تكوين عناصر السكان وفي ذلك التاريخ الذي يتمطى في الماضي.
ففي زمن الرومان انقسم السكان إلى "أهل بيوت الشعر" و"أهل بيوت الطين" أي خيام القبائل الرحل والمدن والقرى. وهذا التقسيم أيضا ما يزال صالحا عندما وصل الأتراك إلى المغرب في القرن السادس عشر، وأيضا عندما احتل الفرنسيون مدينة الجزائر في القرن التاسع عشر. فالأرض مكونة من هضاب عليا ومن جبال وصحاري ومن مساحة صالحة للزراعة صغيرة نسبيا. أما ساحلها فقد كان على العموم غير جيد للرسو. حقا لقد كانت هناك مدن ساحلية تتمتع بماض سحيق يعود على الأقل إلى العهود القرطاجنية والرومانية، ولكن ازدهار معظم هذه المدن لم يكن أبدا ازدهارا مدهشا. ومعظم الأراضي في المغرب الأوسط كان يسكنها رعاة رحالة، بعضهم عرب وبعضهم بربر، يبدلون، من وقت لآخر، جلودهم وأصوافهم وحواناتهم بالانتاج الزراعي ومصنوعات سكان القرى والمدن.
وأن الفتح العربي للمغرب الذي بدأ في القرن السابع قد ترك عنصرين ثقافيين هامين في المنطقة. وهما الدين (الإسلامي) واللغة العربية. وقد أصر أحد المؤرخين البارزين على أن اعتناق شعوب شمال افريقية للاسلام كان حقا ثورة تجاوزت الثورتين الفرنسية والروسية في عصرنا، ولكن لسوء الحظ فانه لا أثر للوثائق ولا يوجد سوى قليل من البقايا الأثرية التي تخبرنا كيف حدثت تلك الثورة. غير أن الذي حدث فعلا هو كثرة المذاهب الاسلامية من أكثر النماذج تعصبا إلى نوع أكثر تسامحا، وهذه حقيقة نابعة من تاريخ الأرض نفسها. ومن جهة أخرى فما دام القرآن مكتوبا بالعربية وما دام عدد معتبر من القبائل العربية قد هاجرت إلى المغرب فإن لغة وثقافة العرب كانتا وما تزالان هامتين.
ولكن العرب لم يستطيعوا أن سؤسسوا نظاما سياسيا يشمل المنطقة كلها. ذلك أن فتوحاتهم، من مصر إلى اسبانيا، كانت، جغرافيا، قد اتسعت جدا ولم يعد من السهل السيطرة عليها في عصر كان النقل فيه محصورا في الخيل والسفن. وقد مرت المنطقة من طرابلس إلى المغرب الأقصى، "بتنظيمات جديدة" عنيفة خلال القرون السابقة للقرون السابقة للقرونالوسطى المسيحية. وكان يقود تلك التنظيمات في العادة رجال من الصحراء حيث التعصب الديني والرغبة في الغنيمة قد بررا احتلال سكان المدن الذين يحبون الرفاهية والكسل. تلك هي قصة المدن منذ تطورت المراكز الحضارية لأول مرة، فالقبائل القاطنة في الجبال تنتفض عليها وتنهب ثروتها.
وكان المغرب (من المنطقة التي نسميها اليوم تونس إلى المغرب الأقصى)خلال القرن الثالث عشر مقسما بين ثلاث ممالك بربرية استطاعت أن تسيطر على المدن وعلى سكان البوادي أيضا في تلك المنطقة. فالعائلة الحفصية التي تأسست في الجزء الشرقي (وهو تقريبا ما نسميه اليوم تونس) استمرت في الحكم إلى القرن السادس عشر. وفي الغرب ظهرت اتحادية من القبائل تحت ملوك رعاة يسمونبنو مرين الذين انتصروا على الحكام الموحدين في منتصف القرن الثالث عشر، وأنشأوا، أو شجعوا، تطور حضارة في المنطقة التي نسميها اليوم المغرب الأقصى، وهي الحضارة التي وصلت قمتها في آخر القرن الرابع عشر. وبين هاتين المملكتين البربريتين أنشأت قبيلة أخرى بقيادة عبد الواد، الذي هو أيضا ملك من الرعاة، الأسرة الزيانية في تلمسان التي هي مركز تجاري هام لتبادل البضائع الأفريقية وبضائع البحر الأبيض المتوسط، وقد امتدت شرقا إلى قسنطينة وحدود المملكة الحفصية. غير أن الزيانيين كانوا منذ البداية في وضع معرض للخطر لأ، أراضيهم كانت تسيل لعاب جيرانهم الأقوياء من الشرق ومن الغرب. فالمرينيون هاجموا واحتلوا تلمسان بينما احتل الحفصيون قسنطينة في الجزء الشرقي من المملكة. ونتيجة لذلك لم تظهر دولة قوية في المغرب الأوسط. ومنذ فاتح القرن الخامس عشر لا وجود لسلطة مركزية حقيقية. كان هناك قبائل يعيشون على نمط معين من الحركة من مرعى إلى آخر وكان بعضهم يستقرون وقتا يكفيهم لحصاد انتاج واحد من القمح ثم يواصلون حركتهم. وكان هناك أيضا مدن صغيرة، بعضها كان على علاقة تجارية مع بقية البحر الأبيض. وقد كانت هذه في الواقع دول - مدن مستقلة بزعامة زعمائها الدينيين أو الدنيويين.
وهكذا يعطينا المغرب في نهاية القرن الخامس عشر صورة انحطاط سياسي وعسكري وتدهور اقتصادي. فالعائلة الحفصية كانت ما تزال حاكمة في الشرق ولكنها كانت ضعيفة وغير قادرة في الغالب على السيطرة على القبائل العربية القوية أو على حكم المدن التي تزعم السيادة عليها. وفي الغرب ما تزال دول المغرب الأقصى تتمتع ببعض القوى السياسية والعسكرية، وأهمها تلك التي تمركزت في فاس، ولكن أحسن ما توصف به حكومة المغرب الأقصى أيضا هو الانحطاط وليس الحيوية السياسية. أما المغرب الأوسط، أي المنطقة التي نسميها اليوم الجزائر، فقد كان بدون حكومة يمكنها أن تزعم أنها تتكلم باسم كل المنطقة. فقد كان عبارة عن مستنقع سياسي من دن صغيرة وقرى مستقلة ومن قبائل بدوية أو نصف بدوية من البربر والعرب، لعل أقواهم هم سكان بلاد زواوة. أن هذا المغرب الأوسط هو الذي سيصبح الأيالة التي تحكمها جماعة البحارة القراصنة الأتراك العثمانيين وستصبح عاصمتها مدينة الجزائر. ولكن هذا لم يحدث بدون صراع القوتين الصاعدتين في القرن الخامس عشر، في طرفي البحر الأبيض، ونعني بهما الممالك الاسبانية والدولة (الأمبراطورية) العثمانية.
دعنا نتابع أولا ظهور الدولة (الأمراطورية) الاسبانية في الغرب. أن زواج فيرديناند وايزابيلا قد جمع بين مملكتين من الممالك الثلاث التي كانت موجودة في شبه جزيرة ايبيريا تحت سلطة تكاد تكون مشتركة، رغم أنه لم يؤيد فعلا إلى توحيد مملتي كاستيل واراغون في دولة اسبانية واحدة. ذلك أن مملكة فيرد يناند، وهي اراغون قد أستمرت في تكريس اهتمامها على جزر البحر الأبيض وعلى ايطاليا، وكانت محكومة من قبل دبلوماسيين وسياسيين ذوي اتجاه تجاري، بينما كان لمملكة كاستل التي يسيطر عليها نبلاء عسكريون، نظرة سياسية أكثر عدوانية. ولم تكد تسقط غرناطة، آخر مملكة اسلامية على شبه الجزيرة، حتى مد رجال كاستيل عيونهم عبر مضيق جبل طارق إلى ميادين جديدة للنشاط العسكري. وقد أرسلت ايزابيلا جاسوسا ليتعرف على ما يجري في الضفة الألأخرى، فكان تقريره كالتالي: "أن كل البلاد في حالة يبدو أن الله أراد أن يمنحنها لأصحاب الجلالة." وكانت سياسة الملوك الكاثوليك في مملكة غرناطة المفتوحة تؤكد التحرك الاسباني في شمال افريقية. ذلك أن رد فعلهم الأول لرعاياهم المسلمين كان التسامح. وهناك اسقف كان يحترم الثقافة الاسلامية والقانون الذي يسمح بممارسة الدين الاسلامي، فاعطى المسلمين الأسبان المعروفين بالموريسكوس عشر سنوات تقريبا من الحرية النسبية ليواصلوا عيشهم التي كانوا عليها في الماضي. ولكن منذ فاتح القرن السادس عشر تغيرت سياسة التسامح وعمل الملوك الكاثوليك على اثارة تمرد في رعاياهم الموريسكيين. وكانت نتيجة الاضطهاد ارسال آلاف منهم كمهاجرين إلى المغرب العربي وحتى إلى المشرق حيث أصبحوا يدعون إلى الجهاد ضد الممالك الأسبانية. وقد خرج بعضهم البحر وهاجموا سواحل مواطنهم السابقة ونهبوا الصيادين الأسبان والتجار الصغار الذين وقعوا في طريقهم. وقد جاء وابل من العرائض إلى الملوك الكاثوليك يطالب أصحابها بالنجدة ضد هؤلاء المغيرين الذين نهبوا القرى والكنائس والخلوات واسترقوا الفقراء الذين وقعوا في أيديهم.
ولو عاشت ايزابيلا لنتج عن تلك الشكاوى والعرائض الاحتلال الكاستيلي للمغرب العربي. فهي عندما ماتت (سنة 1504) تركت وصيتها الملحة لخليفتها بتوسيع السيطرة الكاستيلية حتى تشمل جميع شمال افريقية، من مضيق جبل طارق إلى طرابلس، ولكن موت زوج ابنتها فيليب (سنة 1506) وجنون ابنتها، جوهانا، والخلاف بين فيرديناند وحكومة الوصاية على عرض كاستيل - منع من حركة سريعة. كما أن توحيد المملكتين الاسبانيتين قد أصيب بخطر جديد وهو أن فيرديناند قد يلد وريثا لعرش أراغون لا علاقة له بكاستيل، ولكن مجلس وصاية كاستيل رفض السماح لفيرديناند القيام بأي حركة قد ينتج عنها حرمان أحفاده من ايزابيلا، وهما شارل وفيرديناند فون هابسبورغ، في كاستيل. ولم يكن هذا المشكل العائلي هو وحده الذي منع من احتلال شمال افريقية. ففي سنة 1492 قامت حملة بقيادة كريستوفر كلومبس باكتشاف العالم الجديد الذي اجتذب منذ أوائل القرن السادس عشر النبلاء والجنود الكاستيليين الراغبيين في الثورة والسلطة عبر الاطلنطى، وبذلك امتص العالم الجديد المغامرين الذين كان من الممكن أن يحتلوا شمال افريقية. ومن جهة أخرى فقد كان اهتمام فيرديناند والجزء الهام من أهل أراغون أكثر بايطاليا والنزاع الذي كان يتطور هناك بين الدول الأروبية من أية مغامرة للاحتلال. وكان هو ومستشاروه الاراغونيون الاراغونيون أكثر تسامحا مع الموريسكيين والاسلام من الكاستليين، وكانوا ميالين إلى الحلول الدبلوماسية أكثر من الحلول العسكرية. ولكنهم اعترفوا ان شيئا ما لابد من عمله للحد من نشاط "قرصنة" المغيرين الموريسكين التي كانت تحطم التجارة والسواحل الاسبانية، غير أنهم لم يكونوا مستعدين لاستثمار الثورة والقوة البشرية الضرورية للقيام باحتلال الأرض نفسها. وأفضل وصف للسياسة التي اتبعوها هو"الاحتواء" بدل الاحتلال. ذلك أن فيردينا ند حاول منع القرصنة بالسيطرة على الموانيء التي يمكن للقراصنة القيام بالعمليات منها.
والواقع أن احتلال اسبانيا موانيء المدن على ساحل شمال افريقية قد بدأ في السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر. وذلك عندما احتل الدوق دي مادينا سيدونا de Medina Sidona مليلية. غير أنه كان قد مر حوالي عشر سنوات قبل أن تحتل قوة اسبانية المرسى الكبير (سنة 1505) لايجاد ميناء مناسب للسفن الأسبانية. وبعد ست سنوات وبدافع من الأسقف خيمينيز دي سيسنيروس Cisneros وغيره استطاع بيدرونافارو Navarro أن يحتل وهران وبجاية وفاليز، وطرابلس (سنوات 1508 - 1511). وكان عنف الهجومات الأسبانية والمعاملة القاسية للسكان المحتلين قد أحدث رجة من الرعب على طول الساحل، وأسرعت المدن التي لم يزرها بعد الأسطول الأسباني إلى فيرديناند تطلب دخولها في طاعته كتوابع لسلطانه. وجاء هذا الموقف مناسبا للسياسة الأراغونية،لأن ايطاليا كانت في تلك اللحظة أكثر أهمية من شمال افريقية. وكان فيرديناند راضيا باقامة مراكز محصنة Presidios في أهم الموانيء على طول الساحل. فبجاية والجزائر وفاليز ووهران والمرسى الكبير ومليلية كانت اما محتلة من قبل القوات الاسبانية واما أرغمت عهلى القبول حصون اسبانية في موانيها مع مدافع تستطيع أن تتحكم في كل التحركات . وباستثناء وهران والمرسى الكبير وطرابلس فان حكومة المدن في الواقع تركت في يد الأهالي. ومن الواضح أن هذه السياسة كانت تهدف إلى وقف نشاط البحارة القراصنة العاملين ضد الممتلكات الاسبانية أكثر مما كانت مدفوعة بأية اعتبارات دينية, ولكن تبين أنها كانت سياسية غير صالحة. ذلك أننا سنرى أنه بعد وفاة فيرديناند افتكت كل الحصون المذكورة من أيدي الأسبان ولم تبق إلا وهران والمرسى الكبير.
والصعوبة الأساسية لسياسة الاحتواء هذه تبدو لا محالة متأصلة في التعصب الديني للشعوب البربرية والعربية في شمال افريقية، وهو التعصب الذي زاده اشتعالا الاستبداد الأسباني في معاملة السكان المسلمين في اسبانيا. وهؤلاء الموريسكيون الذين أجبروا على قبول التنصر أو الهرة، والذين سجنوا وأحرقوا من أجل عقيدتهم وعاداتهم الاسلامية، قد نشروا في كل مكان قصص عدم تسامح الأسبانيين (أي المسيحيين) واستبدادهم وقسوتهم وغلظتهم - لكي يجعلوا من الاسم "الأاسباني" شيئا كريها. وقد عانت المعسكرات الأسبانية في المراكز المحتلة على سواحل شمال افريقية من هذه الحقيقة. وما دامت هذه المعسكرات في جزر بالمراسي فانها كانت معزولة من الأرض الافريقية لدرجة أن الخبز واللحم بل حتى الماء كان غالبا يأتي اليها عن طريق البحر. وفي القرن السادس عشر حين كان النقل والاتصالات معرضة للخطر كان اعتماد تلك المعسكرات الأسبانية على المساعدة التي تأتي من الخارج نكبة. ومع ذلك فان تلك المراكز المحتلة كانت قوية. وكان لها مدافع تستطيع ضرب المراسى وقنبلة المدن. كما أن المعسكرات كانت مسلحة بالقربينات. ولم يكن المسلمون يعرفون هذا النوع من السلاح ولذلك لم يكن في استطاعتهم حتى رد "غزوات" (الغارات) الجنود الأسبان ضدهم. فلم يكن في قدرة الفرسان البربر أو العرب المسلحين بالرماح والسيوف أن يهزموا الجنود الأسبان الا اذا كانوا محملين ثقيلا بالغنائم وعندما يختل نظامهم أثناء السير.
ويكاد الوقت الذي بدأ فيه الأسبان في انشاء المراكز في شمال افريقية هو نفسه الوقت الذي كانت فيه حفنة من المغامرين الشرقيين قد وصلت إلى وسط البحر الأبيض لتبدأ قصة كأنها في أعاجيبها وغرائبها قصة كورتيز Cortez وبيزارو Bizarro في العالم الجديد. وكان زعيمهم هو عروج واخوته الذين ربما كانوا أبناء لجندي انكشاري سابق من ابنة القسيس يوناني ارثوذكسي، ان الأساطير تخبرنا ان هؤلاء الفتيان قد ربوا تربية اسلامية ورعة بينما كانت اخواتهم مسيحيات. غير أن الحقائق الثابثة التي تعرفها عن عروج هي أنه قبل تغريبته كان بحارا مستشرقا في احدى السفن التي قبض عليها فرسان القديس يوحنا بجزيرة رودس وأنه بعد فديته أو هروبه جهزه هو واخوته أمير مصري كقراصنة بحارة يغيرون على التجار المسيحيين. وهكذا فإن ولي نعتمه الأول لم يكن هو السلطان العثمتني بل أمير مصري ستقع أملاكه بعدذلك بقليل في قبضة ذلك السلطان وجيوشه. وحوالي مدار القرن السادس عشر، وصل عروج واخوته: اسحاق ةخير الدين إلى تونس ليبدأوا حرفتهم في غرب البحر الأبيض. لقد كانوا بحارة قراصنة ومجاهدين ضد المسيحية. وكان عروج ايضا يحارب حرب حرب ثأر ضد الرجال الدين استرقوه في سفن فرسان القديس يوحنا. وقد رحب الحاكم الحفصي لتونس بهؤلاء المغامرين وسمح لهم باستعمال موانيه في مقابل سهم في الغنائم المأخودة من السفن المسيحية. ولم تحن سنة 1510 حتى انتشرت قصص غنائم هؤلاء البحارة - القراصنة انتشارا واسعا في الشرق والغرب. ولم يكن القاء القبض على سفينتين كبيرتين محملتين بأشياء ثمينة، واللتين كانت تملكها البابوية، إلا واحدا من الهجومات الكثيرة والعديمة النظير التي أعطت لعروج الشهرة كرجل شجاع ومقدام وجريء، فقد تزايد عدد سفنه الخاصة، بالاضافة إلى تلك السفن التي يقودها رياس مشارقة آخرون. كانوا قد اتجهوا بدورهم نحو الغرب وجعلوا أنفسهم تحت قيادة عروج. وهكذا كان عدد أسطوله القرصاني قد تجاوز اثني عشر سفينة. وكان بامكانهم أن يصطفوا في خط واحد، كل على مرأى من جاره، وهي عملية تسمح لهم بمهاجمة وقبض أي سفينة قد تحاول أن تعبر شبكتهم. فلو أن الرايس عروج أراد أن يقضي بقية حياته كقرصان وأمير بحر لكانت شهرته وثورته مضمونة. ولكن عروج قد طور أفكارا أخرى. فقد رأى في النظام السياسي غير المحدد الشكل للمغرب الأوسط امكانات لانشاء سيادة سياسية لنفسه ولاخوته تجلب القوة والسمعة وكذلك الخلاص في الآخرة. وكانت جهوده لتحقيق ذلك قد كلفته فذراعه ي بجاية ثم حياته عندما جهد نفسه في مد سلطانه نحو تنس وتلمسان.
ولكن في السنوات الأولى من انشاء المقيميات (المراكز المحصنة) الأسبانية، لم يكن هؤلاء القراصنة الشرقيون هم الذين ضايقوا حكومة فيرديناند. فبينما كان المشارقة يملكون الأسلحة النارية، كالنت سفنهم عبارة عن سفن من الابريق ونوع الغليوق ذات الحجم الصغير وكانت مسلحة في أحسن الأحوال بمدافع صغيرة لا يمكن أن يكون لها أي أثر على جدران الحصون الأسبانية. أما الذي ضايق الأسبان حقا فهم المغيرون الموريسكيون ال\ين لم يهاجروا بعد، يتحركون لقبض الأرقاء، وحرق بستة أو ثمانية مجاديف في الجانب الواحد، وهي الزوارق التي من السهل اخفاؤها في مصبات الأنهار الأسبانية، بينما المغيرون، بمساعدة الموريسكيون الذين لم يهاجروا بعد، يتحركون لقبض الأرقاء، وحرق الكنائس والسطوة على أديرة الرهاب (مونستاري). إن هؤلاء القراصنة من الصعب اكتشافهم ومن الصعب السيطرة عليهم. اما البحارة القراصنة الشرقيون الذين لم يكونوا في مستوى الغاليونات الأسبانية المسلحة جيدا أو التي كانت تراقب البحر الأبيض، فقد وجدوا ما فيه الكفاية من السفن التي ترجع إلى الدويلات الاطالية - جنوا، وصقلية، ونابولي، وتوسكاني، ودويلات البابوية - فكانوا يغنمونها ويحملون طاقمها عبيدا. وأول اصطدام هام حدث بين المشارقة والأأسبان كان عندما دعا أهل مدينة بجاية المشارقة لمساعدتهم على طرد الأسبان من المقيمية التي كانت تتحكم في تجارتهم. وقد كانت مدافع القراصنة غير فعالة. ولم يكن عروج ورجاله على استعداد لمواجهة شراسة المدفعية الأسبانية ونار القربينات التي تصب عليهم صبا. وقد تحطمت ذراع عروج بكرة مدفع وانسحب رجاله في فوضى كبيرة. وبعد عدة سنوات، وبعد وفاة فيرديناند سنة 1515 وجد عروج مرة أخرى، عندما استدعاء الجزائريون لمساعدتهم ضد المقيمية الأسبانية في مرساهم، أن مدفعيته كانت على درجة من الضعف لا يمكن معها أن تحقق مرغوبه. وهكذا فبرغم أن القراصنة الشرقيين كانوا يقيمون نشاطهم في الحوض الوسطى للبحر الأبيض فانهم كانوا ما يزالون في مستوى أضعف من القوة الإسبانية طالما كان فيرديناند على قيد الحياة.