العهد العباسي الأول
العصر العباسي الأول أو العصر الذهبي امتد قرنًا من الزمان (132 هـ / 750م - 232 هـ / 847م)، وقد تمتع فيه الخلفاء العباسيين بسلطتهم الدينية والدنيوية.
التاريخ
[عدل]كان العصر العباسي الأول من العصور الإسلامية المرموقة، فقد استقرت أحوال الإسلام، بعد أن هدأت حركة الفتوح التي مرت بها العصر الأموي، كما أرسى كل من أبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور دعائم الدولة، و نتيجة لكل هذا برز في العصر العباسي جمهرة من الأدباء والفلاسفة والمؤرخين والرياضيين ورجالات الفقه في الدين. تميز العصر العباسي الأول ببسط الدولة سيطرتها على كافة أراضي الخلافة الإسلامية الممتدة من الشرق إلى أقصى الغرب، كما تميز هذا العصر بزيادة الفتوحات الإسلامية، فقد شهدت الدولة العباسية توسعًا كبيرًا.[1][2]
تمتع الخلفاء في ذلك العصر بسلطتهم الدينية والدنيوية، وخلفاء هذا العصر تسعة، هم:
خلفاء العصر العباسي الأول
[عدل]الخليفة الأول: أبو العباس (132- 136) : هو عبدالله بن محمد بن على بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب بن هاشم ،ولد سنة 100هـ/ 718م تقريبًا، بويع «أبو العباس» في «الكوفة» في شهر ربيع الأول سنة (132هـ/ 750م) بعد مسيره من الحميمة، استطاع خلالها توطيد أركان الخلافة العباسية، والقضاء على كل مقاومة ظهرت في عهده، وتوفي يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، سنة 136هـ، فكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر ويومًا.[3]
الخليفة الثاني: أبو جعفر المنصور (136-158هـ): هو عبدالله بن محمد بن على بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب بن هاشم، يكنى بـ«أبو جعفر»، ولد سنة 95هـ/ 714م ، بقرية الحميمة ببلاد الشام وتربى وسط كبار الرجال من «بنى هاشم»، فنشأ فصيحًا عالمًا بسير الملوك والأمراء، ودرس النحو والتاريخ والأدب شعرًا ونثرًا وغير ذلك، كما كان كثير الأسفار والتنقل،[4] توفى في (٦ من ذي الحجة سنة 158هـ وهو في طريقه إلى الحج.[5]
الخليفة الثالث: محمد المهدي ( 158- 169هـ): هو محمد بن عبدالله بن محمد وُلد بالحميمة سنة 126هـ هيأه والده أبو جعفر المنصور ليكون أولى بمنصب الخلافة من بعده، فنشأ على ثقافة عربية واسعة، ودراية بفنون الحرب وأساليب الإدارة، اتسم العصر العباسي الأول في عهده بالاستقرار والتسامح والصفح، فأطلق سراح المسجونين السياسيين، واهتم بإقرار العدل بين الناس، وجلس للنظر في مظالم الناس مستعينًا بالقضاة، وأمر بالإنفاق على مرضى الجذام؛ حتى لا يختلطوا بالناس فتصيبهم العدوى، كما اهتم اهتمامًا خاصا بالحرمين الشريفين وبكسوة الكعبة.[6]
الخليفة الرابع: موسى الهادي (169- 170هـ): موسى بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان بجرجان وقت موت المهدي، وتولى له البيعة ببغداد أخوه هارون الرشيد، وكان ولد الهادي بالري، وقد اتصف الخليفة بالغيرة والشهامة والجرأة، ورفض تدخل أمه «الخيزران» في سياسة الدولة كما كانت تفعل في السابق أثناء حكم والده الخليفة المهدي، واجه الخليفة الهادي فتن خطيرة وثورات متعددة، حاول الخليفة القضاء عليها، كما حاول الخليفة المهدي نقل ولاية العهد من أخيه الرشيد إلى ابنه جعفر، مخالفًا بذلك وصية والده في ترتيب ولاية العهد، إلا أن الموت عاجله فلم يتحقق له ما أراد، توفي الهادي « ليلة الجمعة، في نصف ربيع الأول سنة 170هـ وبذلك تكون مدة خلافته سنة وثلاثة أشهر.[7][8]
الخليفة الخامس: هارون الرشيد (170- 193هـ): هو هارون بْن محمد بْن عبد الله بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بْن العباس ، وُلد بالري في آخر ذي الحجة سنة 145هـ، وتولى الخلافة في الليلة التي مات فيها أخوه «الهادي» وعمره اثنان وعشرون عامًا. ويُعدُّ الرشيد أشهر خلفاء العباسيين وأبعدهم صيتًا، فقد ملأت أخباره كتب التاريخ شرقًا وغربًا، لما استقر الرشيد في بغداد عاصمة الخلافة العباسية قلَّد يحيى البرمكى منصب الوزارة وفوضه في إدارة شئون البلاد، ومنحه لقب «أمير»؛ فكان أول من لُقِّب بذلك من الوزراء الفرس في الدولة العباسية اهتم الرشيد بإقامة العدل في الناس، ورفع الظلم عن المسجونين ظلمًا، وأصدر عفوًا عن المعتقلين، فأخرج من كان في السجن من العلويين، وسمح لهم بالعودة إلى المدينة ومنحهم الرواتب، كما أجرى الرشيد تعديلات واسعة في مناصب الدولة في كل من «مكة» و «المدينة» و «الطائف» و «الكوفة» و «خراسان» و «أرمينية» و «الموصل»، وقد حكم الرشيد البلاد ثلاثة وعشرين عامًا، بلغت فيها «الدولة العباسية» ذروة مجدها.[9][10]
الخليفة السادس الأمين (193-198هـ): محمد هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور يلقب بالأمين، وُلد بالرصافة وأمه «زبيدة» ابنة أبو جعفر المنصور»، تولى الخلافة عقب وفاة أبيه «هارون الرشيد» باعتباره ولى عهده، وكان عمره حينئذٍ ثمانية وعشرين عامًا، ودامت فترة حكمه خمس سنوات تقريبًا، وأهم ما ميز عهده هو النزاع الذي قام بينه وبين أخيه المأمون، كان هذا النزاع استمرارًا للصراع القائم بين العرب والعجم داخل الدولة العباسية، وكان يمثل الحزب العربي الأمين ووزيره الفضل بن الربيع، أما الحزب الفارسي فكان يتمثل بالمأمون ووزيره الفضل بن سهل ومر النزاع بين الأمين والمأمون على مرحلتين، المرحلة الأولى كانت دبلوماسية سلمية انتهت سنة 195 هجرية، والمرحلة الثانية كانت مرحلة حرب انتهت بمقتل الأمين سنة 198 هجرية.[11][12][13]
الخليفة السابع: المأمون (198- 218هـ): هو عبدالله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور، ولد عام 170 هـ 786 وتوفي غازيًا في 19 رجب عام 218 هـ بطرسوس، شهد العصر العباسي الأول في عهده ازدهارًا بالنهضة العلمية والفكرية، وذلك لأنه شارك فيها بنفسه. توفي هارون الرشيد في خراسان وأخذت البيعة لابنه الأمين وفقًا لوصية والده التي نصت أيضًا أن يخلف المأمون أخاه الأمين، إلا أن الخليفة الجديد سريعًا ما خلع أخاه من ولاية العهد، وعين ابنه موسى الناطق بالحق وليًا للعهد، وكان المأمون آنذاك في خراسان، فلما علم بأن أخاه قد خلعه عن ولاية العهد أخذ البيعة من أهالي خراسان وتوجه بجيش لمحاربة أخيه، وقد استمرت الحروب بينهما أربع سنوات، إلى أن استطاع المأمون محاصرة بغداد والتغلب على الأمين وقتله، ظافرًا بالخلافة.[14][15][16]
الخليفة الثامن: المعتصم ( 218-227هـ): أبو إسحاق محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور ثامن الخلفاء العباسيين، ولد سنة 179 هجري وتوفي بمدينة سامراء في 18 من ربيع الأول سنة 227 هجرية، وكان في عهد أخيه المأمون واليًا على الشام ومصر، وكان المأمون يميل إليه لشجاعته فولّاه عهده، وفي اليوم الذي توفي فيه المأمون بمدينة طرسوس بويع أبو إسحاق محمد بالخلافة ولُقّب بالمعتصم بالله، في 19 من رجب سنة 218هـ، وما ميّز عهد المعتصم هو استعانته بالجنود الأتراك وذلك للحد من المنافسة الشديدة بين العرب والفرس في الجيش والحكومة.[17][18]
الخليفة التاسع: الواثق بالله (227- 232هـ): هارون بن المعتصم بالله، يكنى بأبي جعفر، أمه أم ولد رومية تسمى "قراطيس" ولد في بغداد سنة 200هـ، كانوا يسمونه المأمون الصغير لأدبه وفضله، وكان المأمون يجلسه وأبوه المعتصم واقف، وكان يقول: يا أبا إسحاق لا تؤدب هارون، فإني أرضي أدبه، ولا تعترض عليه في شيء يفعله. كما عرف عنه اهتمامه بالآداب والأنساب والموسيقى، عُرف بالفصاحة وتنظيم الشعر، وفي عهده فتحت جزيرة صقلية، فتحها الفضل بن جعفر الهمداني سنة 228هـ/ 843، انتهج الواثق بالله نهج والده في سياسية الاعتماد على الأتراك، وزاد عددهم ونفوذهم في عصره، فاستخدمهم للقضاء على الفتن التي ظهرت في عهده.[19][20][21]
الأوضاع الحضارية في العصر العباسي الأول
[عدل]أولاً- النظام السياسي والإداري
[عدل]ويشمل
[عدل]أ - الخلافة: أقام العباسيون دولتهم سنة (132هـ) وتولى أول خلفائهم «أبو العباس عبدالله بن محمد» السلطة بناءً على وصية أخيه «إبراهيم الإمام» بعد وقوعه في قبضة الأمويين، وقد حكم «أبو العباس» أربع سنوات، وقبيل وفاته عهد إلى أخيه «أبى جعفر المنصور» بولاية العهد من بعده، ومن بعد «أبى جعفر»، «عيسى بن موسى»، وكتب العهد بهذا وصره في ثوب وختم عليه بخاتمه وخواتم أهل بيته وسلمه إلى «عيسى بن موسى»، بدأ الحكم وراثيا في عهد «الدولة العباسية» منذ اللحظة الأولى، واقتصر على أهل البيت العباسي، كما أن أكثر الخلفاء كان يوصى بولاية العهد إلى أكثر من شخص؛ مما أدى إلى صراعات ساعدت على تصدع «الدولة العباسية»، وحين تولى «أبو جعفر المنصور» الخلافة واجه اعتراضًا من عمه «عبدالله بن على» الذى رفض مبايعته، ودعا لنفسه بالخلافة مدعيًا أنه ولى عهد «أبى العباس»، مما دعا «المنصور» إلى توجيه جيش له بقيادة «أبى مسلم الخراساني» تمكن من القبض عليه والقضاء على دعوته، وقد نقل «المنصور» ولاية العهد من ابن أخيه «عيسى بن موسى» إلى ابنه «محمد»، الذى تولى الخلافة بعد أبيه «المنصور» ولقب بالمهدى، واستمر في منصبه حتى تُوفي؛ حيث تولى ابنه «موسى» الملقب بالهادي، ولم يمكث سوى سنة واحدة في الحكم؛ حيث تولى من بعده أخوه «هارون الرشيد»، ومنذ عهد «الرشيد» أصبح الصراع السياسي على السلطة إحدى السمات المميزة للعصر العباسي الأول، وكان الصراع بين «الأمين» و «المأمون» من الأمثلة المعبرة عن هذه السمة، وقد انتهى بقتل «الأمين» وتولية «المأمون» الخلافة.[22]
ب- الوزارة: تُعدُّ الوزارة المنصب الثاني بعد الخلافة في «الدولة العباسية» وقد قسَّم فقهاء المسلمين الوزارة إلى نوعين:
- وزارة التفويض: حيث يفوض الخليفة الوزير في تدبير أمور الدولة برأيه واجتهاده، فتكون له السلطة المطلقة في الحكم والتصرف في شئون الدولة.
- وزارة التنفيذ: حيث يكون الوزير وسيطاً بين الخليفة والرعية والولاة، ومجرد منفذ لأوامر الخليفة، وقد أحدث العباسيون نظام الوزارة في بداية دولتهم متأثرين في ذلك بالنظم الفارسية، ولم تكن مسئوليات الوزير في بداية الأمر تبعد كثيرًا عن مسئوليات الكاتب، وقد حصر «أبو جعفر المنصور» مهمة الوزير في التنفيذ وإبداء الرأي والنصح، ولم يكن له وزير دائم، ومن وزرائه: «الربيع بن يونس» الذى اشتهر باللباقة والذكاء وحسن التدبير والسياسة. وقد ظهرت شخصية الوزراء إلى حد كبير في عهد الخليفة «المهدى»، لما ساد الدولة من هدوء نسبى، ومن هؤلاء الوزراء الأقوياء «يعقوب بن داود»، ثم صار للوزارة شأن كبير في عهد «الرشيد»، و «المأمون» لاعتماد الأول على البرامكة، والثاني على «بنى سهل»، فمُنِحَ «يحيى البرمكي» وزير «الرشيد»، و «الفضل بن سهل» وزير «المأمون» صلاحيات وسلطات واسعة، جعلت نفوذهما يمتد إلى جميع مرافق الدولة، ولكن سرعان ما تم التخلص منهما.
ج- الكتابة: كانت طبقة الكُتَّاب ذات أهمية كبيرة في «الدولة العباسية»، وكان الكاتب ذا علم واسع وثقافة عريضة؛ لأنه يقوم بتحرير الرسائل الرسمية والسياسية داخل الدولة وخارجها، كما يتولَّى نشر القرارات والبلاغات والمراسيم بين الناس، ويجلس على منصة القضاء بجوار الخليفة لينظر في الدعاوى والشكاوى ثم يختمها بخاتم الخليفة. ومن أشهر الكُتَّاب في العصر العباسي الأول «يحيى بن خالد بن برمك» في عهد «الرشيد»، و «الفضل» و «الحسن» ابنا «سهل»، و «أحمد بن يوسف» في عهد «المأمون»، و «محمد بن عبدالملك الزيات» و «الحسن بن وهب»، و «أحمد بن المدبر» في عهد «المعتصم» و «الواثق».[22]
د - الحجابة: وهى وظيفة تقوم بمساعدة الحكام في تنظيم الصلة بينهم وبين الرعية، فالحاجب واسطة بين الناس والخليفة، يدرس حوائجهم، ويأذن لهم بالدخول بين يدي الخليفة أو يرفض ذلك إذا كانت الأسباب غير مقنعة؛ وذلك حفاظًا على هيبة الخلافة وتنظيمًا لعرض المسائل حسب أهميتها على الحاكم الأعلى للبلاد. وقد اقتدى العباسيون بالأمويين في اتخاذ الحُجَّاب، وأسرفوا في منع الناس من المقابلات الرسمية، ولعل هذا هو السبب المباشر في نشأة ما أسماه «ابن خلدون» «الحجاب الثاني»، فكان بين الناس والخليفة حاجزان عبارة عن دارين، أحدهما يُسمَّى «دار الخاصة» والآخر «دار العامة»، وكان الخليفة يقابل كل طائفة حسب حالتها وظروفها في إحدى هاتين الدارين تبعًا لإرادة الحُجَّاب على أبوابها.
هـ - ولاية الأقاليم: المقصود بالأقاليم: المناطق التي تتكون منها الدولة. وقد كان النظام الإداري في «الدولة العباسية» نظامًا مركزيا؛ حيث صار الولاة على الأقاليم مجرد عمال للخليفة على عكس ما كانوا عليه في «الدولة الأموية».
وقد قسم العباسيون الولاية على الأقاليم إلى قسمين، وخصوصًا في عهد «الرشيد»، الأول: الولاية الكبرى وهى التي تكون لأحد أبناء الخليفة أو شخص مقرب من الخليفة؛ حيث يتولى هذا الوالي عدة أقاليم في الدولة ويقوم بتصريف أمورها من العاصمة، أو من أحد تلك الأقاليم بعد الرجوع إلى الخليفة، ويرسل إليها ما يشاء من الولاة. الثاني: الولاية الكاملة: حيث يتمتع الوالي ببعض السلطات التي توسع دائرة نفوذه، مثل النظر في الأحكام وجباية الضرائب والخراج وحماية الأمن وإمامة الصلاة وتسيير الجيوش للغزو.
و- الدواوين: ظهرت الدواوين في «الدولة الإسلامية»، كبقية المؤسسات الإدارية، نتيجة لاحتياج المسلمين إليها، وقد جعل «ابن خلدون» وجود الديوان من الأمور اللازمة للملك. وللديوان أهمية كبرى فيما يتعلق بأموال الدولة وحقوقها وحصر جنودها ومرتباتهم، ويرجع الفضل في تنظيم الدواوين في العصر العباسي إلى «خالد بن برمك» وقد اهتم الخلفاء العباسيون بالدواوين؛ فكثرت اختصاصاتها وتنوعت بسبب التعاون الوثيق بين العباسيين والفرس، فقد أخذ العباسيون الخبرة الفارسية في مجال الإدارة، كما احتفظوا ببعض تنظيمات «الدولة الأموية»، خصوصًا في الدواوين والدوائر الرسمية، كما استحدثوا بعض الدواوين كديوان المصادرات، وديوان الأزمّة (المحاسبة) وديوان المظالم، وغيرها.[22]
ز - القضاء: وهو من المناصب المهمة والعظيمة في «الدولة الإسلامية»، ويقوم على المحافظة على حقوق الرعية وإقرار العدل والإنصاف بين جميع الطبقات، وحماية الأخلاق العامة، مستمِدا أحكامه من الكتاب والسنة، ونظرًا لأهمية هذا المنصب فقد وضع العلماء المواصفات التي يجب توافرها في القاضي، ومنها: أن يكون رجلاً قوياً عاقلاً حرا مسلمًا عادلاً، ويتمتع بالسلامة في السمع والبصر، وأن يكون عالمًا بأحكام الشريعة، وقد حظي القضاة في العصر العباسي الأول بالتبجيل والاحترام، وكان تعيينهم وعزلهم يتم بأمر الخليفة، وأول من فعل ذلك الخليفة «المنصور»، فقد عين قضاة البلاد بأمره سنة 136هـ/ 753م. وقد استقرت المذاهب الفقهية في عهد «الدولة العباسية»، وتحددت مهام القضاة وكيفية الإجراء القضائي، وتوحد القانون وأصبحت جلسات القاضي علنية في المسجد وخصوصًا في عهد «المأمون» كما اهتم خلفاء العباسيين بالتثبت من الأحكام، فعيَّنوا جماعة من المُزَكِّين، وظيفتهم تتبع أحوال الشهود، فإذا طعن الخصم في شهادة أحد الشهود سُئل عنه المزكى، كما اهتموا بأحوال القضاة المادية حتى يعيشوا في يسر ورخاء، وقد تطور القضاء بصورة ملحوظة في العصر العباسي الأول، وظهر منصب «قاضى القضاة»، وكان يقيم في عاصمة الدولة، ويقوم بتعيين القضاة في الأقاليم والبلاد المختلفة، وأول من لقب بقاضي القضاة «أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم»، صاحب كتاب «الخراج»، في عهد «الرشيد» وتولى القضاء إلى أن مات.[23][24][25]
ثانيًا- الأوضاع الاقتصادية والعمرانية
[عدل]أدرك الخلفاء العباسيون أهمية الاقتصاد وتنمية الموارد المالية لمواجهة النفقات المتعددة للدولة، واتخذ «المنصور» عدة خطوات لزيادة موارد الدولة، فاستحدث نظام المصادرات للاستيلاء على الأموال لمواجهة أعباء الثورات والحركات التي واجهها، وأعاد النظر في مقادير الضرائب المفروضة على الكور، وفي عهد «الرشيد» ازدهرت أحوال الدولة الاقتصادية، وارتفع مستوى المعيشة، بسبب تدفق الأموال على خزانة الدولة في بغداد، وتعدد موارد الدولة المالية، فكان منها الزكاة، والخراج، والجزية، وأخماس المعدن، والرسوم على التجارة الخارجية، وغيرها وقد أسهمت تلك الموارد في سدّ النفقات في مجال النشاط العسكري والأمني، ومجال البناء والتعمير وإنشاء المدن، مثل مدينة «بغداد» التي أُطلق عليها اسم «دار السلام»، إلا أن الشائع هو اسمها القديم «بغداد»، ومدينة «سامراء».[26]
ثالثًا- الحياة الفكرية
[عدل]شهد العصر العباسي الأول نهضة فكرية عظيمة، وطفرة ثقافية كبيرة في شتى مجالات العلم والمعرفة نتيجة امتداد رقعة «الدولة العباسية» ووفرة ثروتها ورواج تجارتها واهتمام الخلفاء بالحياة الفكرية.
وقد ميز علماء المسلمين بين نوعين من العلوم:
- علوم تتصل بالقرآن الكريم: وهي العلوم النقلية أو الشرعية وتشمل علم التفسير، وعلم القراءات، وعلم الحديث، والفقه، وعلم الكلام، والنحو، واللغة والبيان والأدب.
- علوم أخذها العرب عن غيرهم من الأمم، وهي العلوم العقلية: وتشمل: الفلسفة والهندسة وعلم النجوم والموسيقى والطب والكيمياء والتاريخ والجغرافيا.
كما شهد ذلك العصر نخبة كبيرة من فحول الشعراء على رأسهم «بشار بن برد»، و «أبو نواس»، و «أبو العتاهية» المتوفى و «مسلم بن الوليد»، و «أبو تمام» ،وقد تطور النثر في العصر العباسي الأول بعد دخول كثير من الثقافات اليونانية والفارسية والهندية التي امتزجت به، وأهم فنون النثر في ذلك الوقت الخطابة والوعظ، والمناظرات، والرسائل الديوانية- العهود والوصايا والتوقيعات - والرسائل الإخوانية والأدبية، ومن أعلام الكتاب في ذلك العصر: «ابن المقفع»، و «سهل بن هارون» المتوفى، و «أحمد بن يوسف» ، و «عمرو بن مسعدة» وقد شجع الرشيد العلم والعلماء، وأنشأ «بيت الحكمة»، وجمع فيه كثيرًا من المؤلفين، والمترجمين والنساخ، ومن أشهرهم: «سهل بن هارون»، و «الحسين بن سهل»، وبجانب اهتمام الخلفاء بحركة الترجمة والنقل، اهتم ذوو اليسار (الأغنياء) بتشجيع العلم والإنفاق على الترجمة إلى اللغة العربية، ومنهم «محمد» و «أحمد» و «الحسن» أبناء «موسى بن شاكر» الذين أنفقوا أموالاً ضخمة في ترجمة كتب الرياضيات، وكانت لهم آثار قيمة في الهندسة والموسيقى والنجوم، وقد أرسلوا «حنين بن إسحاق» إلى بلاد الروم فجاءهم بطرائف الكتب وفرائد المصنفات، كما نشطت كتابة التاريخ في العصر العباسي الأول، وأشهر من اشتغل بذلك العلم: «محمد بن الحسين بن زبالة»، و «أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي»، و «سيف بن عمر التميمي»، و «هشام بن محمد الكلبى» او «المدائني».[27]
ومن العوامل التي ساهمت في ازدهار الحركة العلمية في العصر العباسي الأول ظهور الورق واستخدامه في الكتابة، وقد أنشأ «الفضل بن يحيى البرمكى» مصنعًا للورق في عهد «الرشيد» ببغداد،
فانتشرت الكتابة فيه لخفته بعد أن كانوا يكتبون على الجلود والقراطيس المصنوعة بمصر من ورق البردى.[28]
اقرأ أيضًا
[عدل]المراجع
[عدل]- ^ [ دولة بني العباس] حكواتي. وصل لهذا المسار في 2 يناير 2016 [بحاجة لمراجعة المصدر]
- ^ لمحات ثقافية من العصر العباسي الأول مجلة دعوة الحق. وصل لهذا المسار في 2 يناير 2016 نسخة محفوظة 03 يوليو 2017 على موقع واي باك مشين.
- ^ أبو الفداء (1426). المختصر في أخبار البشر (ط. 1). المطبعة الحسينية المصرية. ج. 1. ص. 210.
- ^ ابن جرير الطبري (1387). تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (ط. 2). مصر: دار المعارف. ج. 7. ص. 471.
- ^ ابن جرير الطبري. تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك. ج. 8. ص. 59.
- ^ أبو الفداء. المختصر في أخبار البشر. ج. 2. ص. 8، 9.
- ^ ابن جرير الطبري. تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك. ج. 8. ص. 187- 205.
- ^ ابن الخطيب البغدادي (1417). تاريخ بغداد وذيوله (ط. 1). بيروت: دار الكتب العلمية. ج. 13. ص. 24.
- ^ ابن جرير الطبري. تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك. ج. 8. ص. 230.
- ^ أبو الفداء. المختصر في أخبار البشر. ج. 2. ص. 12.
- ^ ابن جرير الطبري. تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك. ج. 8. ص. 365.
- ^ ابن الخطيب البغدادي. تاريخ بغداد. ج. 4. ص. 107.
- ^ أبو الفداء. المختصر في أخبار البشر. ج. 2. ص. 19.
- ^ السرجاني، راغب (19 يونيو 2017). "المأمون سابع خلفاء بني العباس". مؤرشف من الأصل في 2020-05-24.
- ^ أحمد مختار العبادي (د.ت). في التاريخ العباسي والفاطمي. بيروت: دار النهضة العربية. ص. 101.
{{استشهاد بكتاب}}
: تحقق من التاريخ في:|سنة=
(مساعدة) - ^ ابن جرير الطبري. تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك. ج. 8. ص. 527.
- ^ ابن جرير الطبري. تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك. ج. 8. ص. 667.
- ^ مغلطاي بن قليج. الإشارة إلى سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخلفا. محمد نظام الدين الفٌتَيّح (ط. 1416). دمشق: دار القلم. ص. 115.
- ^ ابن جرير الطبري. تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك. ج. 9. ص. 123.
- ^ مغلطاي ين قَلِيج. الإشارة إلى سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخلفا. ص. 514.
- ^ أبو الفداء. المختصر في أخبار البشر. ج. 2. ص. 35.
- ^ ا ب ج حسن علي حسن و عبدالرحمن سالم. العصر العباسي في العراق والمشرق (132- 656هـ). ج. 3. ص. 29- 31.
- ^ الكندي (1424هـ). الولاة والقضاة. بيروت: دار الكتب العلمية. ص. 301.
- ^ أبو يعلى (1421هـ). الأحكام السلطانية للفراء. بيروت: دار الكتب العلمية. ص. 75.
- ^ ابن الخطيب البغدادي. تاريخ بغداد. ج. 14. ص. 261.
- ^ حسن علي حسن و عبدالرحمن سالم. العصر العباسي في العراق والمشرق (132- 656هـ). ج. 3. ص. 28.
- ^ حسن علي حسن و عبدالرحمن سالم. العصر العباسي في العراق والمشرق (132- 656هـ). ج. 3. ص. 29- 31.
- ^ أنور محمود (د.ت). قصة الورق. القاهرة: دار الكتاب العربي. ص. 37- 38.
{{استشهاد بكتاب}}
: تحقق من التاريخ في:|سنة=
(مساعدة)